في 26 أيار، بعد يومٍ من مغادرة آخر جندي إسرائيلي أراضي جنوب لبنان، تسمّرت أعين الشرق الأوسط بأسره نحو بلدة بنت جبيل، المجاورة لحدود إسرائيل الشماليّة. وقف على المنصّة الأمين العامّ لحزب الله، السيّد حسن نصر الله، رجلٌ لم يكُن قد أتمّ الأربعين من عُمره. في السن التي يبدأ فيها السياسيون في العالَم بحجز مكانة مرتفعة لهم، كان نصر الله بطل الأمة الإسلامية:
“اليوم نحن هنا في أرضنا بفضل دماء شهدائنا”، أوضح نصر الله، “بفضل شعبنا، بفضل الصمود والمقاومة. ليس منّة من أحد… ليس منّة من مجلس الأمن الدولي. وليس منّة من الحَكَم غير النـزيه الولايات المتحدة الأميركية، ليس منّة من المفاوضات. وأيضًا بالتأكيد، ليس منّة ولا فضلاً من حكومة باراك، الذي خرج من هذه الأرض لأنه لم يكن أمامه سوى خيار واحد، وهو الخروج من هذه الأرض”.
ظهرت إسرائيل العظمى كمنحنية أمام الميليشيا الشيعية التي يترأسها. كان مصدر فخره ما دعاه “كيفية فرض الانسحاب على العدو”: “أنتم فرضتم عليه التوقيت.. أنتم فرضتم عليه التكتيك.. أنتم فرضتم عليه الكيفية… وأنتم أثبتم، بعد الانسحاب، أنكم شعبٌ لائق بالنصر”. بعد سنوات من الهزائم العسكرية والمفاوضات، أعاد نصر الله للعرب كرامتهم وصورتهم كمقاتلين لإسرائيل.
فكيف وصل هذا الشاب إلى هذه المكانة المرتفعة، إذ بدا للحظةٍ زعيمًا للأمة الإسلامية بأسرها؟ وكيف تدهور مذّاك حتى اليوم ليصبح إحدى الشخصيات الكريهة والذميمة لدى السنة؟ في السراء والضراء، يدين نصر الله بمكانته إلى الجمهوريّة الإسلامية الإيرانية. فهي التي وضعته على خط المواجهة الشيعية الأول ضدّ إسرائيل، وهي التي جنّدته وقت الحاجة ليشارك في حرب بشار الأسد في سوريا.
فتى يرتدي الجبة والعمامة
حسن نصر الله، المولود عام 1960 في حي برج حمود شرقي بيروت، هو الأول بين تسعة أبناء في عائلة شيعية أصلها من جنوب لبنان. ورغم أنّ عائلة نصر الله لم تكن شديدة التمسك بالدين، يُروى أنه منذ سنّ صغيرة، أبدى نصر الله الفتى إلمامًا لا يُضاهى في الكتابات الدينية والفلسفية.
فضلًا عن ذلك، تابع نصر الله الشاب بدقة وسائل الإعلام، مظهرًا اهتمامًا خاصًّا بالتلفاز. وككل الأطفال، أكثر من لعب كرة القدم مع رفاقه. لكن حتى حين كان ولدًا، كان في نصر الله شيء يشير إلى ما ينتظره. فقد روى والده أنه كان منذ طفولته يلفّ نفسه بالجبة، يعتمر عمامة، ويخطب أمام رفاقه كأنه إمام.
اضطُرّت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 نصر الله الفتى وأسرته إلى الهجرة جنوبًا، حيث تقرّب من موسى الصدر وعقيدته. في وقت لاحق، كانت بلاغة الصدر الجذابة ستميز نصر الله أيضًا، وهو الذي أصبحت حركة أمل بيته السياسي حينذاك.
من لبنان إلى النجف، ثم رجوعًا
بلغ إلمام نصر الله ومواهبه مسامع الإمام الشيعي محمد باقر الصدر، الذي دعا التلميذ النجيب إلى مدينة النجف في العراق، حين كان في السادسة عشرة من عمره فقط. وبعد أن التقيا، عيّن الصدر مرشِدًا لنصر الله، كان لبنانيًّا هو الآخر: عباس الموسوي. ويبدو أنّ أحدًا لم يؤثر في نصر الله قدر ما فعل هذا “المدرّب” الذي رافقه سنوات.
بعد أن ازدادت شدّة تعامُل السلطات العراقية مع الشيعة في أواخر السبعينات (ما أدّى في نهاية المطاف إلى إصدار رجال صدّام حسين أمرًا بإعدام الصدر)، فرّ نصر الله إلى لبنان، هذه المرة كعالِم دين مثقّف. أضحى نصر الله مسؤولًا في حركة أمل، واستقرّ في منطقة بعلبك.
نشوءُ حزبِ الله
مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، انقسم الشيعة في لبنان، ما أدّى بعد نحو عامَين إلى تأسيس “حزب الله” بشكل رسميّ. والرجل الذي يُعتبَر مؤسس التنظيم هو علي أكبر محتشمي بور، الذي كان سفيرًا لإيران في دمشق. بمبادرة من محتشمي، جرى تدريب أجيال من المقاتلين الشيعة اللبنانيين بتمويلٍ إيرانيّ.
مزج نصر الله في تلك السنوات بين العمل العسكري ودراسة الدين. في أواسط الثمانينات، خرج من لبنان وقضى فترة قصيرة في مدينة قُم الإيرانية، حيث واظب على الدراسة. لكن نحو نهاية العقد، اشتدّت الحرب بين حركة أمل وحزب الله، فدُعي نصر الله للعودة إلى لبنان ليقود قوّات الحزب. عام 1990، نُصّب نصر الله قائدًا للقوة النظامية في الحزب.
بالتوازي مع تعزيز القوات السورية في لبنان، تعزّزت أيضًا مكانة الموسوي ونصر الله لدى الإيرانيين، وعُيّن الموسوي أمينًا عامًّا لحزب الله. مذّاك، وُجّهت القوة بالأساس ضدّ إسرائيل، وأعلن الموسوي أنّ حزب الله “سيمحو كلّ ذكرٍ لإسرائيل في فلسطين”.
يعِدُ ويفي
عام 1992، اغتالت إسرائيل الموسوي، ولم يكن من دُعي لخلافته في الأمانة العامّة سوى حسن نصر الله. بقيادة نصر الله، تعزّز خطّ النضال الذي لا يقبل التسوية ضدّ إسرائيل، ما عُبّر عنه بتفجيرات خارج حُدود إسرائيل، لا سيّما ضدّ أهداف إسرائيليّة ويهوديّة في الأرجنتين عامَي 1992 و1994، ما أسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص.
أمّا اختبار القيادة الأهم لنصر الله فأتى عام 1997، حين أعلنت مجموعة برئاسة الأمين العامّ الأول للحزب، الشيخ صبحي الطفيلي، عن انتفاضة. لكنّ إيران وسوريا دعمتا نصر الله، فجرى تجريد معارضيه، الذين تركّزوا في منطقة بعلبك، من سلاحهم واستسلموا. وتحت قيادة نصر الله، ضاعَف حزب الله قدراته العسكرية.
إحدى العمليات التي منحت نصر الله الكثير من الاعتبار، وآلمت إسرائيل جدًّا كانت عملية أنصارية عام 1997، حين نجح الحزب اللبناني في التقاط المعلومات التي رصدها الجيش الإسرائيلي في لبنان، ونَصْب كمين قُتل فيه 11 جنديًّا من وحدة النخبة “شييطت 13” (وحدة كوماندوس بحريّ). دُعيت العملية في إسرائيل “كارثة الشييطت”. وأُعيدت جثة أحد المقاتلين إلى إسرائيل مقابل جثة نجل نصر الله، الذي قضى في القتال مع إسرائيل.
عام 2000، بعد سنوات من الحرب في المنطقة الحدودية، قرّرت القيادة الإسرائيليّة سحب كافة قوّاتها من لُبنان. بدا نصر الله، الذي خطب من بنت جبيل، منتصرًا واستهزأ بإسرائيل، التي تشبه حسب قوله “بيت العنكبوت”، إذ هي ضعيفة ويمكن زلزلتُها.
بعد أشهر، نجح الحزب في قتل وخطف جثث ثلاثة جنود إسرائيليين، وضابط بارز آخر في الاحتياط، تورّط في صفقة مخدّرات. في كانون الثاني 2004، بعد مفاوضات شاقّة وضغط شعبيّ كبير في إسرائيل، جرى التوقيع على صفقة أعاد حزب الله بموجبها الجثث الثلاث والضابط الحيّ، مقابل 436 أسيرًا، معظمهم فلسطينيّون. أصبحت مكانة نصر الله كمفاوضٍ باسم العالم العربيّ أقوى من أيّ وقتٍ مضى.
التورُّط في 2006
إثر نجاح عملية الخطف عام 2000، حاول حزب الله إعادة الكرّة صيف 2006، قاتلًا وخاطفًا جنديَّين إسرائيليَّين إضافيَّيْن. لم يُحسن نصر الله تقدير ردّ إسرائيل القاسي، إذ هاجمت لبنان بكامل قوّتها الجوية، وسبّبت أضرارًا حادّة للسكّان جميعِهم.
خلال الحرب، عمد نصر الله إلى الاختباء خشية اغتياله من قِبل إسرائيل. مع ذلك، حتّى من ملجئه، واصل نقل رسائل إلى الشعب اللبناني وخوض حرب نفسية مع إسرائيل عبر خطاباتٍ متلفزة.
لكن رغم ما قاله في أيّام الحرب الأولى، فإنّ الضرر على لبنان كان بالغًا. فقد قُتل نحو 300 مدنيّ و700 مقاتِل في حزب الله خلال القتال. كما دُمّر منزل نصر الله نفسه إبّان الحرب، ولاقى انتقادًا حادًّا في لبنان لتسببه بحرب أخرى مع إسرائيل.
منذ 2006، لا يُكثر نصر الله من إطلالاته العلنية، ويبدو مشهده يقف أمام آلاف المناصرين في بنت جبيل بعيدَ المنال. حتى إنه قرّر إبعاد القتال ضد إسرائيل عن الحدود اللبنانية، وقرّر ضرب أهداف إسرائيلية في الخارج. ورغم الضرر الذي نجم عن الحرب، برّ نصر الله بوعدِه، إذ قاد صفقة تبادل مع إسرائيل أدّت إلى تحرير سمير القنطار مع أربعة أسرى آخرين و200 جثّة لمقاتلي حزب الله.
حتّى حين تكلّم نصر الله عن أكثر المواضيع جدية، لم يفُته أن يدمج النكات في كلامه. ويبدو أنّ هذا هو أحد الأمور التي جعلت منه خطيبًا موهوبًا:
http://www.youtube.com/watch?v=fNHe0q2G-WQ&feature=youtu.be
خادم سيدين
بعد اندلاع “الربيع العربي”، وُضع حزب الله في وضع لا يُحسَد عليه، ليجد نفسه في الجانب المغاير للرأي العامّ العربي. فمع تصاعُد المعارك في سوريا، دُعي نصر الله إلى خدمة سيّديه، العلوي والإيراني، في الحفاظ على نظام بشار الأسد برعاية إيران. وبدأت إيران، التي درّبت وأنشأت طوال سنوات قوى حزب الله العسكرية لمواجهة إسرائيل، في استخدام خادمها الأمين نصر الله بتجنيده لقتال الثوّار السوريّين.
قرّر نصر الله أن يضع كامل ثقله لضمان نظام الأسد، مضحيًا بحياة العديد من مُقاتِليه. وفي خطاب متلفَز ألقاه هذا العام بمناسبة “عيد المقاومة والتحرير”، ذكرى الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، وصف نصر الله صديقه السوري بصفته “العمود الفقريّ للمقاومة”، مؤكّدًا أنّ حزبه لن يسمح بإسقاط حُكم الأسد.
فاقم الوقوف إلى جانب الأسد في القتال في سوريا الغيظ الهائل على نصر الله في العالَم السني. وثمّة مَن استخدَم النكات التي رُوِيَت عنه عام 2006 لتجسيد الكره المتزايد نحوه عام 2013.
http://www.youtube.com/watch?v=LsbveWboPiM&feature=youtu.be
على هذه الخلفية، اضطُرّ نصر الله للمرة الأولى للتعايش مع شائعات عن إصابته بالسرطان ونقله إلى إيران على جناح السرعة لتلقّي العلاج. وقف نصر الله أمام الكاميرات، معلنًا بصوته أنّ ما سُمع عنه لم يكن صحيحًا.
كلّما تطوّر القتال في سوريا، يُكثر المتمرّدون السوريون من إطلاق شائعات عن إصابتهم نصر الله نفسه ونائبه، نعيم قاسم. حتّى بعد الاتّفاق بين إيران والدول الغربية في جنيف، أوضح نصر الله أنّ حزب الله لن يكبح نشاطه، وأنّ إيران وسوريا لم ولن يهجرا حلفهما مع حزب الله.
مؤخرًا، حدث تصعيد إضافي في الصراع بين الشيعة والسنة، إذ أدّى تفجير في السفارة الإيرانية في بيروت إلى مصرع الملحق الثقافي في السّفارة. ويُضاف تفجير السفارة إلى سلسلة من الهجمات على مراكز قوّة حزب الله، مثل إطلاق صواريخ كاتيوشا وتفجير عبوات ناسفة في الضاحية الجنوبية.
وتُعدّ هذه محاولة لإحراز توازُن رُعب لبناني – يبدو فيه واضحًا لحزب الله أنه سيسدّد في الجبهة الداخلية ثمن تدخّله المستمرّ في سوريا. سنعرف مستقبلًا إن كان نصر الله سيُضطرّ إلى دفع ثمن شخصيّ لمشاركته في هذه الحرب.