لمن يتابع مسار الإرهاب في الشرق الأوسط، والتقارير التي تُشير إلى أن سعيد الكواشي، أحد من قاموا بالعملية الهجومية على مؤسسة شارلي ايبدو في باريس، قد اجتاز سلسلة من التدريبات في معسكرات القاعدة في اليمن، فلن يجد الأمر مفاجئا.
حسب التقارير من عدة جهات إعلامية، اجتاز الكواشي سلسلة تأهيل في استعمال وتحضير القنابل في اليمن تحت رعاية القاعدة. فرع القاعدة اليمني، المكوّن عمليا من لاجئي التنظيم السعودي، قد أثبت في السابق قدراته، المبهرة والمقلقة على حدٍّ سواء، في الوصول إلى الأهداف البعيدة بعدا كبيرا عن حدود الدولة اليمنية وإصابتها. يُعرف التنظيم في أوساط المخابرات بقدراته ومهاراته العالية وقد صنفت مؤسسات المخابرات الأمريكية التنظيم كأخطر التنظيمات على أمنها القومي منذ 2008، قبل مدة طويلة من موجة الانقلابات في 2011.
لكن مُذّاك، تحت غطاء الفوضى التي اجتاحت اليمن منذ الثورة على الرئيس السابق علي عبد الله صالح، متّنت القاعدة قاعدتها ووسعت سيطرتها على مناطق كثيرة في الدولة. لقد تلقى التنظيم ضربات قاصمة في السنوات الأخيرة من الجيش اليميني بتغطية طائرات أمريكية، وعلى يد المتمردين الحوثيين الشيعيين، الذين خرجوا في السنة الأخيرة من معقلهم في محافظة صعدة الشمالية واستولوا على مناطق واسعة في اليمن.
بسبب الأعمال الواسعة والمركّزة للجيش اليميني، اضطرت القاعدة إلى الانسحاب من المناطق التي احتلها جنوب اليمن بعد 2011. لكن مع ذلك، يحافظ التنظيم على معاقله في مركز اليمن وينجح دائما في تنفيذ عمليات فتاكة ضد القوات الأمنية اليمنية وضد المتمردين الحوثيين.
عدا عن الصراعات التي تديرها القاعدة في شبه الجزيرة العربية في اليمن، أثبت التنظيم عدة مرات سابقا قدرته في استهداف أهداف غربية وعربية حتى خارج حدود الدولة. في كانون الثاني 2009، أعلِن عن التوحيد ما بين الذراع السعودية للقاعدة، التي تلقت ضربة قاصمة من قوات الأمن السعودية، وبين الذراع اليمينة تحت اسم “قاعدة شبه الجزيرة العربية”. لقد أسس التنظيم نفسه في اليمن وبدأ بتنفيذ عمليات ضد أهداف عالمية متنوعة. في نفس السنة، كاد انتحاري بعثت به القاعدة اليمنية أن ينجح في قتل ابن وزير الداخلية السعودي حينئذٍ، محمد بن نايف، حين استضاف الأخير أناسا في بيته في جدة. الانتحاري، الذي يُعرَف عنه أنه ناشط إرهابي لكنه اجتاز عملية “العودة للأفضل” قام بتفجير عبوة حملها حول جسمه. أصيب ابن نايف، الذي لم يكن مستهدفا صدفة، بل كان على رأس الصراع الذي أدارته السعودية ضد الجهات الإرهابية في الدولة، إصابات طفيفة فقط.
أدى توحيد القواعد السعودية واليمنية للقاعدة سنة 2009 إلى ازدياد التعاون بين القوى الأمنية اليمنية والأمريكية، التي زادت من هجماتها من طائرة بلا طيار على معاقل ونشطاء التنظيم. لقد أدى هذا التعاون إلى جعل القاعدة تستحث جهودها المكثفة من أجل استهداف أهداف أمريكية.
https://www.youtube.com/watch?v=ix9YKHJqLyI
في عيد الميلاد 2009، حاول التنظيم، بمساعدة عضو نيجيري متدربٍ في اليمن، تفجير طائرة أمريكية وإسقاطها أرضا. وصل الناشط، عمر فاروق عبد المطلب، إلى اليمن من أجل التدرب على العملية ضد الولايات المتحدة. لقد استقل الطائرة عائدا إلى إفريقيا والقنبلة مخبأة في سرواله. ثم من إفريقيا استقل طائرة أخرى إلى هولندا ومن هناك إلى دترويت. حين كانت الطائرة في أجواء الولايات المتحدة، حاول عبد المطلب تفجير القنبلة لكن بعد عطل فيها بدأت تشتعل ولم تنفجر. نجح طاقم الطائرة والأمن في السيطرة على الاشتعال والمخرب، والذي حُكم عليه بالمؤبد في الولايات المتحدة.
أنور العولقي، مسؤول التنظيم الرفيع الذي اغتيل في 2011
في محاولة أخرى، أرسل نشطاء القاعدة قنابل متفجرة مخبأة في عبوات حبر للطابعات من اليمن للولايات المتحدة. كان يُفترض على ما يبدو أن تنفجر القنابل والطائرة محلقة في الجو لكن التفجير مُنع بفضل معلومات استخبارية وصلت من الاستخبارات السعودية. لقد ضُبطت إحدى القنابل في مطار دبي بعد أن أرسِلت من اليمن للدوحة، عاصمة قطر، ومن هناك للإمارات. اتخذت القنبلة الأخرى طريقها لدبي، وأرسِلت لألمانيا، حتى ضُبطت في المحطة الثالثة فقط في مطار بريطانيا وتم تفكيكها.
https://www.youtube.com/watch?v=3J2-g1BzO5w
حين فشلت هذه العملية، وجدت القاعدة في شبه الجزيرة العربية طرقا أخرى للتفجير في قلب الولايات المتحدة، بواسطة الدعاية في الإنترنت وتجنيد مفجرين عن بعد. قُتل 13 جنديا أمريكيا حين قام جندي أمريكي مسلم يدعى نضال حسن، والذي تواصل مع الواعظ اليمني الأمريكي للقاعدة، أنور العولقي، عبر البريد الإلكتروني، بإطلاق النار في قاعدة أمريكية في بورت هود في تكساس. قُتل العولقي نفسُه بعد ذلك في هجوم طائرة بلا طيار سنة 2011.
نجحت الذراع اليمنية للقاعدة في استهداف المواصلات البحرية في منطقة اليمن والخليج الفارسي. حتى في تشرين الأول 2000، نجح التنظيم في إطلاق قارب بحري محمل بـحوالي 270 كيلوغراما من المواد المتفجرة كي تنفجر بقرب حاملة الطائرات الأمريكية التي توقفت توقفا عاديا للتزود بالوقود في ميناء عدن. لقد أدى التفجير إلى موت 17 جنديا بحريا أمريكيا وأوقع أضرارا تفوق 250 مليون دولار لحاملة الطائرات. سنة 2010، نجحت القاعدة في إصابة ناقلة نفط يابانية مرت من مضيق هرمز، على مشارف الخليج العربي.
في السنة الفائتة وجهت القاعدة في شبه الجزيرة العربية مجهودها في مجابهة انتشار المتمردين الحوثيين واستفرغت وسعها في تنفيذ عمليات كبرى في اليمن. بعد أيّام معدودة فقط من دخول المليشيات الشيعية إلى العاصمة صنعاء، نشر التنظيم بيانا أعلن فيه أن الشيعة كفرة ودعا السنيين إلى حمل السلاح وقتالها. عمليا، لقد خدم التمرد الحوثي تنظيم القاعدة اليمني حيث اضطر الجيش اليمني إلى نقل قواته من الجنوب، التي تقاتل ضد القاعدة، إلى المحافظات الشمالية بغية كبح جماح اجتياح المتمردين الحوثيين. منذ أيلول، تولى التنظيم المسؤولية عن 150 عملية إرهابية في أرجاء الدولة، منها أهداف عسكرية يمنية وأهداف أجنبيه في اليمن.
لقد قامت القاعدة بهجومين ضد سفارة الولايات المتحدة في اليمن، أصيب فيها رجال الأمن هنالك، ومحاولة اغتيال فاشلة للسفير الأمريكي في اليمن. في عملية أخرى في شهر كانون الأول الأخير، قام نشطاء التنظيم بهجوم ضد قاعدة تابعة لجنود أمريكيين في اليمن. ادعى التنظيم أن الحديث عن عملية انتقام على عملية فاشلة قام بها الجيش الأمريكي في محاولة لإطلاق سراح صحفي اتُخذ رهينة لدى القاعدة، قُتل في العملية عدة نشطاء من القاعدة. يضافُ أن التنظيم قد نفذ هجوما بواسطة سيارة مفخخة ضد السفارة الإيرانية في صنعاء، مدعيا أن إيران تُسلح وتدعم المتمردين الحوثيين.
يثبت آخر هجوم في باريس أن القاعدة في شبه الجزيرة العربية رغم وجودها في ذروة معركة عسيرة ونازفة في أرضها، ما زالت تمتلك قدرات ميّزتها في السنوات الماضية: استهداف أهداف بعيدة بواسطة مبعوثين، استعمال وسائل دعائية ووسائل متنوعة. إصرار القاعدة على إصابة أهداف أمريكية شديد للغاية بسبب الضرر الكبير الذي سببته عمليات القصف من الطائرات الأمريكية بلا طيار في اليمن، التي أودت بنشطاء عديدين ومنهم مسؤولو تنظيم رفيعو المستوى. مع ذلك، سيكون الهجوم التالي المرتقب على ما يبدو مفاجئا وغير متوقع كسابقه.
نشر هذا المقال لأول مرة على موقع الشرق الأدنى