يوم الاثنين، 24 آذار 2014، سُجّلت إحدى أكثر اللحظات المخزية في تاريخ القضاء في مصر. ففي حُكمٍ غريب، قرّر القاضي إعدام 529 متّهمًا ينتمون إلى “الإخوان المسلمين”، بينهم مُرشد الحركة محمد بديع. لم يشمل المسار القضائي الذي سبق إصدار الحُكم أكثر من جلستَين، لم يقدِّم الادّعاء أدلّة تدين كلّا من المتَّهمين إفراديًّا، ولم يُتَح للدفاع أن يدافِع عن المتَّهمين. في خطوة بالغة السرعة، كشف القضاة أنهم أسرى حكّام البلاد.
بطبيعة الحال، أثار قرار المحكمة سخط “الإخوان” وعائلاتهم. فقد قال نبيل عبد السلام، محامي عدد من أعضاء “الإخوان”، بينهم الرئيس السابق محمد مرسي، إنّ “هذه هي المحاكمة الأسرع وعدد المحكوم عليهم بالإعدام الأكبر في تاريخ الجهاز القضائيّ”. وأدانت منظمات حقوق الإنسان في مصر، سواء المستقلّة أو شبه الحكوميّة مثل المجلس القوميّ لحقوق الإنسان، هذه الخطوة أو ذكرت أنها ستُلغى حين يستأنف المتَّهمون. أمّا وزارة الخارجية الأمريكية فذكرت أنّها مصعوقة من الحُكم.
وحدث ذلك إلى جانب فضائح قضائيّة أخرى، مثل اعتقال وسجن صحفيين من قناة الجزيرة التلفزيونية قبل أشهر، بتهمة إلحاق تقاريرهم الأذى بالدولة. ويثير احتجاز أحدهم، الصحفي الأستراليّ بيتر غْرِست، توتّرًا دبلوماسيًّا بين مصر وأستراليا، حتّى إنه يهدِّد بالتحوّل إلى قضية سياسيّة في أستراليا نفسها، إذ إنّ غْرِست اعتُقل نهاية 2013، لكنّ رئيس حكومة أستراليا، طوني أبوت، لم يتكلّم في شأنه مع الرئيس المصري الانتقالي، عدلي منصور، سوى في الأسبوع الفائت. وأثار ردّ الفعل البطيء لأبوت انتقادًا حادًّا من جانب المعارضة الأستراليّة.
الجهاز القضائي في مصر، الذي يواجه الكثير من المنتقِدين من الداخل والخارج، هو موضوع الدراسة الأكاديمية للباحث القانونيّ ناثان براون. فمؤخرا، نشر براون مقالة في موقع “مركز كارنيغي”، نشرها قبل ذاك كافتتاحية في “واشنطن بوست”، تناقش ثقافة الجهاز القضائيّ في مصر وسلوكَه. وذكر براون عددًا من المميّزات التي توضح سلسلة الأحكام الغريبة للمحاكم، التي تضرب بأسس القضاء السليم عرض الحائط: تبعيّة الجهاز القضائي للقوى السياسيّة، الناجمة عن تحكُّم السلطة التنفيذية منذ فترة طويلة بحقّ تعيين ذوي المناصب المركزية في القضاء، مثل رئيس المحكمة الدستورية والمدّعي العام، وعن تمتُّع قضاة كثيرين بـ “امتيازات” لدى السلطة التنفيذيّة؛ التضامُن الجماعي والقرابة العائلية، التي تشمل انتقال مناصب قضائية من الأب إلى الابن أحيانًا؛ والحطّ من قدر الجهاز القضائي أمام القوى الأمنيّة.
ظهرت الصلات السياسية للقضاء المصري بشكلٍ واضح في حزيران 2012، قبل يومَين من الانتخابات الرئاسية، التي تنافس فيها محمد مرسي، مرشَّح “الإخوان المسلمين”، والفريق أحمد شفيق، العسكريّ المقرَّب من مبارك، على رئاسة الجمهورية. في ذلك الوقت تحديدًا، قرّرت المحكمة الدستورية العليا حلّ مجلس الشعب المصري، الذي كان يسيطر عليه “الإخوان المسلمون”. هدفت تلك الخطوة إلى إلحاق الضرر بالإخوان، إذ فكّكت مرتكز قوّتهم في البرلمان، وأذلتهم ضاربةً حظوظ فوزهم في الانتخابات. كما هو معلوم، لم يؤدٍّ ذلك في النهاية إلى منع انتصار مرسي، لكنه أظهر استعداد القضاة للتعاوُن مع الحكّام، ولرهن الجهاز القضائي لسلطة خُصوم “الإخوان”. في الواقع، كانت هذه مقاربة قُضاة مصر بين عامَي 2011 و2013، السنوات التي حقّق فيها “الإخوان” إنجازاتهم الديمقراطيّة. كان الجيش والجهاز القضائيّ العقبتَين الأساسيّتَين في طريقهم والقوّتَين المركزيّتَين اللاجمتَين لهم، إذ تكلّم القضاء باسم القانون، لكنه عمل فعليًّا لصالح الجيش.
يعتقد كثيرون أنّ قرار الأسبوع الماضي لن يخرُج إلى حيّز التنفيذ، ولن يتمّ إعدام المتَّهمين الـ 529. ربّما. لكنّ الرسالة العنيفة والعدوانيّة وصلت بنجاح. فالسيفُ مُصْلَتٌ على رقاب معارضي الجيش والنظام، والجهاز القضائيّ هو من نفّذ ذلك. هكذا برهنت السلطة القضائية في مصر أنها ليست أكثر من دُمية يتحكّم الجيش في خيوطها.
نُشر المقال للمرة الأولى في موقع Can Think