في ساعات الصباح الباكر من منتصف الأسبوع، تجري الأعمال في المنطقة الصناعية بركان، التي تقع جنوب الضفة الغربية، كما في كلّ يوم. يأتي آلاف العمال في عشرات المصانع التي تقع في المنطقة الصناعية، نصفهم إسرائيليين ونصفهم فلسطينيين، إلى العمل: بعضهم بسيارة خاصة وبعضهم بالسفريات المنظمة من قبل المصانع، وبعضهم من داخل الخطّ الأخضر أو من المستوطنات القريبة وبعضهم من القرى والمدن المحيطة بالمنطقة، مثل الخليل أو سلفيت.
في الساعة 11:30 اليوم في ذروته، والماكينات في المصانع تعمل بجدّ. ظاهريا، إنه مجرد يوم آخر. الأعمال تجري بشكل عادي. ولكن تحوم فوق المنطقة الصناعية توجيهات متجدّدة من الاتحاد الأوروبي والتي تقيّد التعاون مع المستوطنات، في الوقت الذي تتعزّز في أوروبا الأصوات المنادية بمقاطعة البضائع الإسرائيلية المنتجة خارج الخطّ الأخضر.
تعيش المنطقة الصناعية، التي أقيمت عام 1982 وتمتدّ على وجه 1,300 دونم، في ذروة اتساعها. “هناك تأثير ما للقرارات الأخيرة من قبل الاتحاد الأوروبي على نشاط مصنعنا”، كما يقول لنا يهودا كوهين، المدير العامّ لـ “مصانع ليفسكي” لصناعة المنتجات البلاستيكية للمطابخ والحمامات. “الحمد لله، في مصنعنا نشغّل 90 عاملا، 40 إسرائيليًّا و 50 فلسطينيا. هنا يسود السلام اليومي الذي يريد السياسيون تدميره”.
إنّ المنطقة الصناعية بركان التي يقع فيها مصنع البلاستيك “ليفسكي”، بالإضافة إلى مصانع أخرى، هي منطقة مثيرة للجدل، خارج الخط الأخضر، في الأراضي المحتلة التي ستكون كما يُفترض تابعة في المستقبل للدولة الفلسطينية حين تقوم. وفي هذه الأيام، تشغّل المصانع المائة وسبعون التي تعمل في المنطقة، نحو 7000 عامل، نصفهم فلسطينيين من القرى المجاورة والنصف الآخر من الإسرائيليين.
يوضح كوهين أنّ الواقع يملي الحياة بشكل يومي: “إن المصانع هنا وتشغيل العمال الفلسطينيين رغم التوترات الأمنية ورغم تهديدات المقاطعة من أوروبا، هي مزيج واضح من المصالح. هناك نقص للأيدي العاملة في إسرائيل، وفي السلطة الفلسطينية، التي تقاطع منتجاتنا وتصنع المتاعب لكل المورّدين أو المستوردين الفلسطينيين الذين يجرؤون على شراء منتجات المستوطنات؛ البطالة مرتفعة”.
ويضيف كوهين خلال جولتنا في المصنع: “يتلقى العامل البسيط هنا الحدّ الأدنى للأجور وفقا للقانون في إسرائيل، بما في ذلك التأمين ومخصصات الضرائب وفقا للقانون الفلسطيني. في نهاية يوم عمل يكسب العمل العادي في خطّ الإنتاج هنا أكثر من معلمّ يعمل من قبل السلطة الفلسطينية نفسها ويمكنه إعالة أسرته الصغيرة بالإضافة إلى أسرتين إضافيتين بالمعدّل بسبب أجره المرتفع. يصل العامل البسيط هنا إلى أجر يبلغ 6000 شاقل (1666 دولار). في السلطة الفلسطينية يكسب المعلم نحو 1200 أو 1400 شيكل (333 – 385 دولار). العمال الفلسطينيون يعملون بجدّ، ونحن لا يمكن أن نتنازل عنهم”.
قلق كبير من إغلاق المصانع وزيادة دوائر البطالة
رغم الانطباع الذي تتركه العناوين في الفترة الأخيرة عن “المقاطعة الأوروبية للمستوطنات”، فليس هناك للتوجيهات الأوروبية الجديدة تأثير كبير على جريان الأعمال الإسرائيلية في المنطقة الصناعية بركان القائمة في الضفة الغربية. رغم ذلك، فإنّ الكثير من مديري المصانع قلقون من قدوم اليوم الذي لا يكون فيه زبائن يشترون منتجاتهم.
يحكي لنا كوهين أنّه منذ العام 2011 لم يوافق رئيس الحكومة السابق في السلطة، سلام فياض، على دخول العمال الفلسطينيين للمنطقة الصناعية وأدى إلى ضرر اقتصادي كبير سواء للسلطة التي تتلقى من إسرائيل العوائد الضريبية السنوية من عمل الفلسطينيين في المنطقة، أو للتصدير وأصحاب المصانع، أو لمئات الأسر الفلسطينية التي تكسب رزقها من العمل هناك. ولكن التصريحات الأكثر إزعاجا للمصنّعين هي وسم المنتجات المصنّعة في المستوطنات. هل سيشتري الفرنسي أو البريطاني سلّة قمامة بلاستيكية عليها ملصق “يحذّر” الزبون من أنّ المنتج الذي بحوزته صُنع في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية؟
“إنّ مسألة المقاطعات رغم أنّها لا تضرّ بأي نشاط للمصنع ولكنها تضيّق جدّا على خطواتنا. أقول للحكومات الأوروبية وللسلطة الفلسطينية لا تقاطعوا المصنّعين والعمال الفلسطينيين الذين يعملون هنا. نفّذوا المقاطعة بينكم أنتم أيها السياسيون. إنّ وسم منتجات المستوطنات يضع أمامنا مشكلة جديدة تقيّد دائرة الزبائن المحتملين لدينا، وبدلا من النموّ فنحن نواجه قوى اقتصادية كبيرة في السوق ونحاول البقاء على قيد الحياة”، كما يقول لنا كوهين وهو يجري لنا جولة في مصنع البلاستيك ويُطلعنا على النشاط الواسع للعمال الفلسطينيين في المصنع.
“ليس لديّ مشكلة مع وسم منتجاتنا. ولكن يجب عليهم أن يأتوا ليروا الواقع بأعينهم. سأفرح فيما لو وسَم المشرّعون الكبار في أوروبا والعالم منتجاتنا بالوسم: “Peace Product produced by Palestinians and Israelis at the West Bank”. هذا هو التعريف الحقيقي، على الأوروبيين والأمريكيين تشجيع السلام الذي يأتي من الأسفل”.
تكثيف المقاطعة الفلسطينية لمنتجات المستوطنات
منذ عدة سنوات (بداية من نهاية عام 2009) تقود الحكومة الفلسطينية معركة مغطاة إعلاميا بشكل جيّد لمقاطعة المنتجات التي يكون مصدرها المناطق الصناعية في المستوطنات. “في عام 2010 سنزيل من الضفة الغربية منتجات المستوطنين”، هكذا صرّح وزير الاقتصاد الفلسطيني حسن أبو لبدة. كانت ذروة هذه الظاهرة في شهر شباط عام 2010، عندما شارك رئيس الحكومة آنذاك، فيّاض، في مظاهرة لتدمير منتجات المستوطنات وتم تصويره وهو يلقي المنتجات إلى النيران.
تمّ تشريع قانون فلسطيني يحظر شراء المنتجات من المستوطنات قبل نحو 9 سنوات، ولكن حتى وقت قريب لم تكن هناك محاول لتطبيقه. “ظننّا في البداية أنّ السلطة الفلسطينية لن تطبّق القانون، ولكن جاء حينذاك رجل أعمال فلسطيني قام باستيراد منتجات من المصانع المجاورة وقامت السلطة بتغريمه مبلغا بقيمة 14000 دولار والسجن لمدة 5 سنوات”.
وظهر في التقارير الفلسطينية أنّ الفلسطينيين يستهلكون كل عام من منتجات المستوطنات بنطاق 500 مليون دولار. منذ العام 2009، مع بداية تطبيق قوانين المقاطعة سُجّل هبوط بنسبة 14% مقارنة بالعام 2008 في التصدير والخدمات من إسرائيل للسلطة الفلسطينية. بالنسبة للفلسطينيين لم تكن تلك مقاطعة ولكن محاولة لتعزيز الاقتصاد الفلسطيني.
رغم محاولة عرض الخطوة كتعزيز للاقتصاد الفلسطيني، ظهر أنّه من الصعب العثور على كلمة أخرى باستثناء المقاطعة، على خلفية بعض الأعمال الفلسطينية التي نُفّذت في هذا السياق. إنّ إلقاء البضائع في النيران يذكّرنا بالأنظمة الظلامية. كان أفراد الشرطة الفلسطينية نشطين جدا وجمعوا من المتاجر منتجات صنعتْ في المستوطنات: في أريحا تم جمع مستحضرات تجميل أنتجها مصنع “Ahava”. في مدن أخرى في الضفة تم جمع معجّنات وحلويات من إنتاج مصانع في بركان، حليب من هضبة الجولان، منتجات بلاستيكية ومنتجات لشركة المواد الغذائية “Bagel Bagel” من المصنع في بركان، والذي قام مؤخرا بنقل موقعه إلى صفد من أجل تقليص خسائره وزيادة تخفيضات التصدير لأوروبا.
انتقادات من الداخل للمناطق الصناعية
على ضوء جميع هذه الصعوبات، تقف المصانع في بركان أيضًا أمام انتقادات متواصلة من الداخل، من داخل إسرائيل وخصوصا من الأجنحة اليسارية.
نشرت منظمة “السلام الآن” (اليسار الإسرائيلي) مؤخرا تقارير ذُكر فيها أن الحكومة الإسرائيلية تمنح مزايا للبلدات التي تعرّف بأنّها “مناطق أولوية وطنية”. تعتبر جميع المستوطنات تقريبا مناطق أولوية وطنية وتتمتع بمزايا متنوعة، بغضّ النظر عن المبررات الاجتماعية والاقتصادية.
يعملون معا بشكل سلميّ، ولكن هل هذا هو الحال في كلّ مكان؟
وأيضا بخصوص الادعاء بأنّ العمال الفلسطينيين يحظون بتعامل أكثر إنصافا بصفتهم عمالا منتظمين في المصانع الإسرائيلية، هناك من يدعي بأنّ الوضع “أكثر تعقيدًا”.
لدى زيارة مصنع ليفسكي، كان بالإمكان مشاهدة الإسرائيليين والفلسطينيين وهم يعملون معًا على خطوط الإنتاج، بهدوء، بسلام، وبوحدة هي تقريبا “رؤية نهاية العالم” في الواقع الإسرائيلي. مدير المخزن والخدمات اللوجستية، وهي إحدى الوظائف العليا في المصنع ولا شكّ أنها وظيفة تقوم على الثقة، تتمثّل بفلسطيني. “لن أستطيع إدارة المصنع دونه”، كما قال لنا يهودا كوهين.
ولكن ليس كل شيء ورديّا في بركان. في العام الماضي (2013) نُشر تقرير لمراقب الدولة عن أوضاع إنفاذ القانون في الضفة الغربية. كان الاستنتاج الرئيسي فيه هو أنّ دولة إسرائيل تخلّت عن القانون في تلك المناطق. موضوع إنفاذ قوانين العمل لم يكن غير مألوف، وهذه الأحكام لا يتم تطبيقها بشكل عادي في المنطقة الصناعية بركان.
لا شكّ أنه يمكننا العثور على قصص نجاح من “التعايش” في بركان وأيضا قصص أقل نجاحا. يبدو أن صورة المنطقة الصناعية معقّدة، وموقف الهيئات مثل الاتحاد الأوروبي والتي بحسبها فإنّ مجرد وجود المصانع الإسرائيلية على أرض غير معرّفة كإسرائيلية يناقض القانون الدولي؛ قد تضرّ بخطوات التطبيع القائمة بين الشعبين.