كل من يهتم بمسألة القدس الشرقية، لن يستطيع تجاهل التغيّرات الحاصلة (ليس بهذا العمق) من وراء ما يبدو ظاهريًّا. فالحديث ليس عن انقلاب أو انعطاف، لكن عن نوع من التطور الذي نشأ من المشي في الوحل في مستنقع الوضع القائم الذي يتدهور ببطء، من تغيير طفيف على السطح الذي يطفو في السنوات الأخيرة، في تدرج وتعاقب.
بالرغم وربما بسبب التمييز الصارخ الذي وصل عَنان السماء بين شرق المدينة وغربها، فقد نجح الجمهور الفلسطيني في القدس بأن يحافظ على مدى سنين على جنسية إسرائيلية وبقي الفلسطينيون “سكانا ثابتين”. في سنوات الاحتلال الأولى، كانت قد نجحت لجنة الآباء في القدس العربية في صراعها ضد فرض المنهاج الدراسي الإسرائيلي، وحتى اليوم تُقدم أغلب الثانويات الفلسطينية في المدينة تلاميذها لامتحانات التوجيهي لا للبجروت الإسرائيلي. لا يحق للسكان التصويت للكنيست أما انتخابات البلدية، فيقاطعونها باستمرار. منذ إقامة السلطة الفلسطينية وهم يصوتون للبرلمان الفلسطيني في رام الله الذي ليس له أي تأثير في القدس. عامّةً يمكن القول إن الفلسطينيين في القدس اعترضوا على ضم المدينة الشرقية لإسرائيل على قدر استطاعتهم. ولكن في السنوات الثلاث الأخيرة كان التغيير في هذا التوجه بيّنًا، وتشير الشهادات المتجمعة إلى استعداد السكان الفلسطينيين للاندماج في النظام القائم في المدينة.
يُمثَّل التغيير أكثر بالمعطيات العددية، التي نجح في رصدها نير حسون في سلسلة مقالات في صحيفة هآرتس، في أواخر 2012. يزداد وينمو عدد المدارس في القدس العربية التي ترغب في تعليم البجروت الإسرائيلي بدلا من التوجيهي؛ وبدأت مؤسسات خاصة لتعليم العبرية والتحضير للبجروت الخارجي في الظهور هناك كالفطر بعد المطر؛ وجرى ارتفاع حاد في عدد المقدسيين- الشرقيين ذوي شهادة التوجيهي الذين يترددون على السنة التحضيرية للجامعة العبرية.
يزداد عدد الطلاب الفلسطينيين من سكانِ القدس الذين يتعلمون في الجامعة العبرية وفي الكليات الإسرائيلية ازديادا بيّنًا، وهو توجه سيؤثر على تكملة طريقهم بعد إنهاء التعليم، إذ أن الشهادة الإسرائيلية تعني البحث عن عمل في إسرائيل لا في السلطة الفلسطينية. في عام 2007، أنشأ الطلاب الفلسطينيون في الجامعة العبرية جماعة طلّابية باسم “وطن” التي أقامت سابقا خلال السنة في حرم الجامعة معرضًا مثيرًا للجدل. يظهر جانب آخر للتغيير في التصاعد البارز في عدد طلبات الجنسية الإسرائيلية من فرع وزارة الداخلية في شرقي القدس.
يفسر البعض هذه المعطيات الكمية كبداية تغيير جوهري في مفهوم الهوية الفلسطينية في القدس الشرقية والذي يمكن أن يطال تأثيره المستقبل السياسي للمدينة. إن كان يعتبر طلب الجنسية أو شهادة البجروت في الماضي كخيانة لروح القومية الفلسطينية، فقد أصبح اليوم مقبولا بلا اكتراث بل بتفهّم ذلك.
هذا التوجه يظهر في مجالات أخرى كثيرة، من الخدمات الصحية وحتى البنى التحتية والتخطيط، لكن سأتمحور حول العوامل التي تبرز من الواقع مثلَ أنماط الأنشطة والاستهلاك للسكان الفلسطينيين في المدينة. في الماضي أقيم في القدس نظامان مختلفان للمواصلات العامة، لكن سنة 2011 بدأ القطار الخفيف العمل في المدينة.
مُدّت خطوطه بين شرق المدينة وغربها، ووصَلت لأول مرة بين الأحياء اليهودية والعربية في القدس، التي لم يلتق أهلها من قبل. وهكذا نشأت رحبة عامة جديدة يتم فيها اللقاء والاحتكاك اليومي بين السكان. كذلك، إن كان الفلسطينيون المقدسيون قد عملوا في محلات “يهودية” في غربي المدينة، فقد بدأوا في السنوات الأخيرة يترددون على أماكن الترفيه والمراكز التجارية، ومجمع مالحة التجاري وحديقة ساكر كزبائن وزائرين. لا يدل الاحتكاك المتصاعد والتغيير في أنماط الأنشطة واللقاء بين السكان على التقارب، و يبرز أحيانًا العداء، الحقد والمخاوف ويظهر الجانب القبيح والشرس للمدينة المنشقّة.
التغييرات التي استُعرضت أعلاه لا تشير إلى تحوّل الفلسطينيين في القدس لصهيونيين. قد صار غياب قيادة فلسطينية في القدس الشرقية وانقطاعها المكاني عن الضفة الغربية، حقيقة واقعة، وينبع الاندماج الفلسطيني في الرحبة المقدسية من معايير البقاء الشخصي ومن الحاجة الشخصية لتحصيل حياة كريمة.
لا يظهر التغيير في المستوى الشخصي حتى الآن بشكل جماعي ولا سياسي؛ لم تتصدع مقاطعة الفلسطينيين للمشاركة في الانتخابات للبلدية، ويبدو أن النزعة السياسية للفلسطينيين في المدينة، وتضامنهم الصلب مع الحركة القومية الفلسطينية كما كانا من قبل. يعتقد باحث المجتمع الفلسطيني في القدس، د. هليل كوهين، أنه قد نشأت في المدينة هوية فلسطينية بديلة تختلف عن تلك التي في الضفة، وتلك الخاصة بعرب إسرائيل.
يصعب فهم هذا الاتجاه من ناحية كمية فقط. في عام 2006، صوت سكان شرق القدس بكافّتهم لحماس، وبعد ذلك بخمس سنوات نشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى استطلاعًا أجري عليهم، والذي أظهر أن 35 % ممّن سُئلوا يفضلون أن يكونوا سكانًا إسرائيليين حتى بعد إقامة دولة فلسطينية، يفضل 35 % جنسية إسرائيلية، وأجاب 30 % أنه “لا يعرف” أو رفضوا الإجابة. كانت العوامل التي ظهرت في الاستطلاع كأسباب لتفضيل الجنسية الإسرائيلية هي عمليةً- حرية التنقل، تأمين صحي وإمكانية العمل، بينما كانت الدوافع لتفضيل الجنسية الفلسطينية قوميةً ومتعلقة بالهوية (انظروا التداول الذي جرى في الموضوع في معهد القدس للبحث الإسرائيلي). حتى من يميل إلى إلغاء نتائج الاستطلاع سيضطر إلى إعادة التفكير على ضوء الواقع الجديد.
بالتباين مع التغيّرات في المجتمع المقدسي الفلسطيني، تستمر دولة إسرائيل في بناء، تخطيط وتوسيع الأحياء اليهودية شرقَ المدينة. تنجز منظمات المستوطنين في القدس إنجازات بارزة ولأول مرة ينجح اليمين المتطرف في التسلل لمجلس البلدية. من ناحية أخرى كانت عمليات الاعتراض المشتركة لليسار والفلسطينيين محدودة وليس لها أي تطلع مشترك وشامل للقدس. لذا لم تترجم أعمالهم إلى عمل سياسي مشترك وإنما تركزت في معارك كبح محصورة، وعلى الأغلب فشلت في الأهداف التي وضعتها لنفسها وخمدت على مهل. تطل اليوم بلا إزعاج مجمعات مستوطنين متكتلة ومحصّنة في كل الساحة الفلسطينية في القدس. جمعية “إلعاد”، المعروفة من فعاليتها في سلوان، تؤيد إقامة مجمع كيدم الكبير ويمكن أن تحوز على زمام التحكم بالحديقة الأثرية القريب من ساحة المبكى، جبل الهيكل ومسجد الأقصى. يمكن القول مجازًا إنه بينما هم “يطفئون الحرائق” من اليسار يبنون بيوتًا من اليمين.
في سنوات الثمانينات وبداية التسعينات توفّق المعتدلون من الجانب الإسرائيلي والفلسطيني من تحويل اللقاء بينهم إلى مسيرة مشتركة ومهمة وحتى ترجمته لإنجاز سياسي. ولكن اتفاق أوسلو، دخول عرفات ورجاله للضفة وانهيار عملية السلام لاحقًا أدت جميعها إلى إنهاء العمل المشترك وإضعاف شديد للجانب الفلسطيني المحلي في القدس. كانت أحداث الانتفاضة الثانية وموت فيصل الحسيني ضربة قاسية للجمهور الفلسطيني في القدس ولليسار الإسرائيلي على حد سواء.
مع اقتراب تاريخ الهدف الأول لبعثة وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، يطل الادعاء من جديد أننا “في وقت حاسم”. هذا الشعار الفارغ من المضمون تُعزف أوتاره ما يقارب 25 عامًا؛ بلا أي علاقة للعملية السياسية، وفي كل تجمع سياسي مستقبلي، سيلتقي في القدس دائمًا إسرائيليون وفلسطينيون، يهود، مسلمون ومسيحيون، إذ أن المدينة حقا ملتقى بشري خاص.
لن تكون لعامة الجمهور التحرري والمنادي بالمساواة في القدس بهجة ما دامت غيرَ قائمة الشراكةُ الاجتماعية، السياسية والمُسَوِّيَة بين اليهود والفلسطينيين. ليس هذا مفهومًا ضمنا: لا وُدّ ولا ثقة بين الجانبين، لا توازن بين المحتَلّ والمحتَلّ، لا توازن بين المميز والمميز ضده. لكن على ضوء الواقع، سواء في اليسار الإسرائيلي المتجدد أو الجانب الفلسطيني، يجب أن تُحسب من جديد فرضيات العمل وطرق التنفيذ. إن توحيد القوى لصالح خلق رؤيا مشتركة للقدس، تترجَم لعملية شعبية ومستقبلا إلى إنجاز سياسي محلي، وهي ضرورة يفرضها الواقع.
في الانتخابات الأخيرة لمدينة القدس، وقف جمهور كبير من يهود القدس أمام اختيار مربك بين الأسوأ، والأكثر سوءًا. سيتنازل اليهود في انضمامهم للنضال المشترك عن نظرة “صنع المعروف” مع الفلسطينيين، وسيتنازل الفلسطينيون إلى توجه أكثر براغماتية وأقل مثالية والذي يمكن أن يحسّن وضعهم من غير دفع ثمن سياسي حقيقي. النفور الفلسطيني من التطبيع والعمل المشترك، والتجاهل الكامل تقريبًا للسكان الفلسطينيين الذي يميز النهضة المدنية والتحررية في القدس اليهودية، هما وجهان لعملة واحدة. للإسرائيليين والفلسطينيين الذين استيأسُوا من تغيّر الوضع داخليًا، ويطالبون بالاعتماد على ضغط خارجي، يمكن القول: افتحوا أعينكم وانظروا حولكم- من سوريا وحتى أوكرانيا، لا أحد في هذا العالم ينقذنا من أنفسنا. المقدسيون اليهود والمقدسيون الفلسطينيون يحتاج أحدهما الآخر بنفس المدى، لأن كليهما يصارعان على البيت.
تم نشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع Can Think