نبدأ قصة جزيرة جربة، المكان الرائع في تونس بأسطورة عجيبة. يدور الحديث عن قصة غامضة لشابة كانت تعيش حياة عزلة، وهي ابنة كاهن يهودي، وصلت إلى شواطئ جزيرة جربة الرائعة في ظل ظروف غامضة، وعاشت في مبنى كان على وشك الانهيار. فهناك غموض حول مصدر هذه الأسطورة، وقت حدوثها، وقبولها بين يهود المنطقة، وكذلك ظروف حياة الشابة وفق هذه الأسطورة.
فوفق الأسطورة، احترق بيت الشابة يوما ما، ولمزيد دهشة سكان الجزيرة، ظل جثمانها كاملا. هناك صيغة أخرى للأسطورة، تقول إنه كان يمكن رؤية الشابة بالقرب من كنيس “الغريبة” بعد دفنها أيضًا، وهناك صيغة ثالثة تتحدث عن أن الذين يزورون قبرها يشهدون عجائب في حياتهم.
هكذا أصبح يدعى أغرق كنيس في إفريقيا “الغريبة” (أي العجية). حظي الكنيس بقدسية خاصة بفضل العجائب التي صنعتها الشابة وبات موقع حج لليهود وغيرهم حتى يومنا هذا.
وهذا ليس الأمر الرائع الوحيد بالنسبة للعلاقات الودية بين المسلمين واليهود في الجزيرة التونسية. ففي كل سنة في هذه الفترة تحديدا، يُجري اليهود التونسيون واليهود الشرقيون أحد مراسم الـ “هيلولا” (أي الزيارة كما يسمونها في تونس) الأكثر فخامة والأكبر، ليحظوا ببركة الحاخام شمعون بار يوحاي الذي يُعتبر أحد الحاخامات اليهود الكبار المسؤول عن تعاليم الكبالاه والروحانيات في اليهودية. رغم أن الحاخام مدفون في جبل ميرون في إسرائيل، من المعتاد أن يزور يهود إفريقيا سنويا، في فترة عيد المشاعل، الكنيس في جزيرة جربة، والتنقل في المنطقة احتفالا بالعيد.
يهود جزيرة جربة
تمكن مُواصلة ذلك التقليد القديم بفضل وجود الجالية اليهودية في الجزيرة. ويُعتبر يهود جزيرة جربة أبناء إحدى الجاليات القديمة في العالم. وفق التقاليد المحلية، وصل اليهود إلى الجزيرة، منذ أيام الملك سليمان وبعد خراب المعبد اليهودي الأول في القدس (عام 586 قبل الميلاد).
هناك أقوال تشير إلى أن اللاجئين اليهود الذين هربوا من القدس بعد أن دمرها نبوخذ نصر (ملك بابل)، أحضروا معهم إلى جربة بابا من أبواب المعبد اليهودي الأولى، الذي بناه الملك سليمان. يُعرض أمام زوار الكنيس في جربة حتى يومنا هذا حجرا يتضمن أحد أقواس الكنيس، تشير التقاليد إلى أنه تم إحضاره من القدس أيضا.
هناك حارتان يهودياتان في الجزيرة: الحي الكبير القريب من البحر ويُدعى “الحارة الكبيرة” والحي الصغير ويدعى : “الحارة الصغيرة”. المسافة بين الحارتين هي 8 كيلومترات، ويدير كل حي حياته بشكل مستقل.
نجح يهود جربة في الحفاظ على حضارتهم التقليدية، وما زالوا حتى يومنا هذا يحرصون على العمل وفق وصايا التوراة، وكافة تعاليم الشريعة اليهودية. في جربة نحو 20 كنيسا، و “مدرستان للتعاليم اليهودية” ويتعلم معظم الطلاب اليهود في يومنا هذا، بمحض إرادتهم، في مدارس حكومية.
يُعتبر يهود جربة محافظين ومتشددين دينيا، كجيرانهم المسلمين أبناء طائفة الإباضية.
إن تمسك يهود جربة بالدين أدى في السنوات الماضية إلى أن تصبح الجزيرة أحد المواقع اليهودية الروحانية المعروفة في كل شمال أفريقيا. على سبيل المثال، أصبح كنيس “الغربية” مركز حج للكثير من اليهود.
وأصبحت الجزيرة أحد المواقع ذات الطابع العبري الهام في إفريقيا: صدرت فيها كتب مقدسة لخدمة سائر يهود شمال إفريقيا. ومن المعروف عن سكان جربة أن هناك من بينهم عدد كبير من الحاخامات والمشهورين الكثيرين، وأنهم يتميزون بأسلوب خاص، يتضمن التواضع الأقرب إلى الخجل، ضبط النفس في التعبير عن المشاعر، الإيمان بعين الحسود، وسذاجة متعمدة – كنمط حياة.
حتى قيام دولة إسرائيل كان تعداد الجالية اليهودية من أبناء جربة نحو 4.500 شخص ولكن في العقود الأخيرة تضاءل عدد أبناء هذه الجالية إذ غادر الكثير منهم الى إسرائيل، فرنسا، كندا، والولايات المتحدة.
في يومنا هذا هناك علاقات جيدة بين الجالية اليهودية وجيرانها المسلمين، رغم أنه في الفترات السابقة عانى السكان اليهود أحيانا من معاملة عدائية من قبل جزء صغير من المسلمين.
في عام 2002، فجر إرهابيون من القاعدة سيارة مفخخة بالقرب من كنيس الغريبة. لم تسفر الحادثة عن إصابات في أوساط أبناء الجالية اليهودية، ولكن قُتل 16 سائحا ألمانيا.
يعيش نحو 1000 يهودي من أبناء الجالية في جربة إلى جانب أكثرية من المسلمين وهناك علاقات تجارية مزدهرة بين أبناء كلا الطائفتين. يعتبر يهود جربة أغنياء مقارنة بجيرانهم المسلمين ويعمل معظمهم في صياغة الذهب والمعادن الأخرى.
الحياة في الجزيرة العجيبة
يعيش نحو ثلثي يهودي تونس (في تونس يعيش نحو 1800 يهودي) في جربة.تنشط قوات عسكريّة في كل مكان فيه نسبة عالية من اليهود. عند مدخل “الحارة الكبيرة” هناك معبر عسكريّ، يقف فيه جندي ويحمل سلاحا مُشهّرا وتقف سيارة عسكرية لإرساء الشعور بالأمان.
هناك قلعة بالقرب من الكنيس في جربة ويجتاز كل سائح يرغب في رؤية الكنيس القديم، فحصا أمنيا مشددا.
رغم ذلك، لا يسود شعور بالخوف أو المطاردة في الحي اليهودي. فالحوانيت التي تبيع الأطعمة الحلال تكون مفتوحة حتى وقت متأخر ويتجول الكثيرون وهم يعتمرون قلنسوة دون خوف. تُجرى في استاد كرة القدم الصغير في جربة، كل نهاية يوم سبت “أمسية لليهود” – يلعب عشرات الشبان كرة القدم دون أن يتعرضوا لازعاج أيا كان.
الزيارة المباركة
تراجع عدد زوار الغريبة منذ 2011، حيث بلغ العدد في 2010 نحو 10 آلاف شخص، ليستقر عددهم خلال السنوات الأخيرة عند حدود الألفين فقط، وفق خُذير حنية، المسؤول عن كنيس الغريبة.
وتتمثل طقوس الزوار في اليوم الأول من الاحتفالات الكبرى لحج الغريبة، بإشعال الشموع في الجهة المخصصة للصلاة داخل المعبد (الجهة اليُسرى من المعبد)، ووضع البيض في المكان المخصص له، بعد أن يكتبوا عليه أمانيهم للعام المقبل.
وبمجرد خروجهم من مكان الصلاة، يتجه الزوار إلى رجل عجوز يسمى بـ “رِبي عتوقي” (75 عاما)، وهو شخص “مبارك” وفق اعتقادهم، يقرأ لهم أجزاء من أحد كتب التوراة.
وفي الجانب الأيمن من المعبد، تُجرى الاحتفالات عبر ترديد الأغاني التونسية، وتقديم الأكلات الشعبية المعروفة في تونس (أشهرها البريك)، إضافة إلى احتساء نبيذ “البوخا”.
في هذه الأثناء، كلما زاد الشعور بالأمان لدى يهود شمال إفريقيا، إسرائيل، فرنسا، وكندا يزداد عدد الزوار اليهود إلى الجزيرة والكنيس في هذه الفترة من السنة.