بعد أن أظهرنا التأثير العظيم لعملاقَي الطرب المصري، أم كلثوم وفريد الأطرش، في الثقافة الموسيقيّة في إسرائيل، يجدُر تقديم الكرامة التي تستحقّها من تُعتبَر سائرةً على دربهما. إنّها المطربة الأهم قاطبةً في العالم العربي كلّه، اللبنانية فيروز. يشبه صوتُها صوت الجرس الفاخر والدقيق، تُثير أغانيها التي تتناول الطبيعة شعورًا بالهدوء والسكينة، فيما تتسلّل أغانيها الأكثر شحنًا إلى أعماق السامعين. شكّلت فيروز مصدر إلهامٍ لفنّانين عديدين، أدّوا أغنياتها، جدّدوها، وترجموا الكثير من إبداعاتها، كما أضحت موضع إعجاب شديد لمستمِعيها.
ستحتفل فيروز، التي وُلدت باسم نهاد حدّاد، بعيد ميلادها الثمانين، العام المُقبل. تعرَّف الناس إلى فيروز عام 1957، حين ظهرت في مهرجان بعلبك، شرقيّ لبنان. بفضل تعاوُنها الناجح مع الأخوَين عاصي ومنصور الرحباني، تمكّنت مِن اجتذاب عُشّاق في بلادها وفي الدول العربية كافّةً، وأحيت حفلات كثيرة أمام جماهير غفيرة. عام 1971، أجرت جولة فنيّة في الولايات المتحدة وكندا، وحظيت بذروة من الاهتمام في العالم الغربي أيضًا. بفضل شخصيتها الدمثة، أوتارها الصوتية التي تبدو آلاتٍ موسيقيّة صنعة يد فنّان، والتزامها بمبادئها طيلة مسيرتها (رفضت مثلًا الغناء على شرف الرئيس الجزائري، هواري بومدين)، تحوّلت فيروز إلى رمزٍ حقيقيّ.
فيروز تغنّي عن “شادي” – أغنية مؤلمة حول الحرب الأهلية اللبنانية:
http://www.youtube.com/watch?v=HGIzNl4cOvo&feature=youtu.be
قلّة هم الفنّانون الذين يبلغون المكانة الرفيعة التي بلغتها فيروز. فقد مثّلت أغانيها البساطة، الحنين، والتوق إلى الماضي الجميل. كما دمجت أغنياتها بين العلمانية، التي تقدِّس الطبيعة، والوطنية، التي ترفع الشعب اللبناني إلى مرتبة الأعجوبة، وكذلك الأمة العربية كلّها. وبشكلٍ مماثل لفريد الأطرش، الذي أحرز نجاحًا كبيرًا في السينما، دخلت فيروز عالَم التمثيل، ولكن من بوّابة المسرح، إذ قدّمت نحو 20 مسرحيّة وأوبريتًا، كتبها عاصي الرحباني، الذي كان أيضًا زوجها (انفصلا عام 1979) وشقيقه منصور. لكنّ إطلالاتها الموسيقيّة كانت ما منحها معظم المجد، وحوّلها إلى قدوة يُحتذى بها بالنسبة للفنّانات في المنطقة.
سريت حداد في أداءٍ محرِّك للمشاعِر لأغنية “سألتك حبيبي” في إطار حفل تحية للمطربات العربيات العظيمات:
خلال الحرب الأهلية في لبنان، التزمت فيروز بعدم إحياء حفلات في بلادها، حتّى لا تُحسب على طرف دون آخر. بعد ذلك، عادت إلى تسجيل الأغاني بنشاط، وأصدرت ما لا يقلّ عن 6 ألبومات خلال التسعينات، مع إكثارها من الحفلات أمام جماهير كبيرة في مهرجانات في جميع أنحاء العالم العربي (والعالَم كلّه). قبل 6 سنوات، تحرّرت للمرة الأولى من قيود الإجماع، حين اختارت إحياء حفل في دمشق بعد انقطاع 23 عامًا. إثر التوتّر بين قسم من اللبنانيين وسوريا، طلب بعض السياسيّين منها علنًا الامتناع عن إحياء الحفل، لكنها رفضت.
وغنيّ عن الذكر أنّ الحفل لم يقلّل أبدًا من مكانتها في لبنان. لكن، ربّما كان مؤشّرًا يُنبئ بتغيّر وجهة نظرها. فقبل نحو شهرَين، قابل موقع حزب الله ابنها زياد، الذي روى أنّ والدته – التي يكتب ويلحّن أغنياتها – “مُعجَبة بالسيّد حسن نصر الله”. أثار التصريح جدلًا واسعًا، في الإعلام، ولكن بشكل خاصّ على مواقع التواصل الاجتماعي، وأكّد مدى خصوصية فيروز. كان فنّانون آخرون سيواجهون انتقادات لاذعة. ورغم أنّ “صاحبة الصوت الملائكي” واجهت انتقاداتٍ، فإنّ معظم المعجَبين بها حاولوا إيجاد تفسير لما نُسب إليها أو التذرّع بسنّها المتقدّمة. كلّ ذلك بهدف الحفاظ على صورتها المثاليّة والناصعة. هذه الشخصية هي ما دفع موسيقيين مختلفين جدًّا واحدهم عن الآخر إلى البحث عن نقاط تربطهم بأغانيها الرائعة.
دكلة تغنّي “حبّيتك بالصيف”، وتضفي على الأغنية إحساسها (المثير):
وإليكم أمرًا مختلفًا قليلًا – مغنية الأوبرا، ساندرا حورش، تغني ترجمة للأغنية الرائعة “حبيتك بالصيف”:
حتّى إن لم يؤثر فيكم المغنّون الذين يجدّدون أغنية أو اثنتَين، أو يغنّون من حين إلى آخر عددًا من أغاني فيروز، فلا يمكن إلّا أن يثير المشروع التالي اهتمامكم. تترجم فرقة “توركيز” (فيروز)، كما يدلّ اسمها، الأغاني، تعيد توزيعها بأسلوب يدمج الروك مع عذوبة اللحن ويحافظ على العظمة، وتظهر في جميع أنحاء إسرائيل في العقد الأخير. تعتزم الفرقة قريبًا إصدار ألبوم، ننتظره بفارغ الصبر. صحيحٌ أنّ المغنية (وعازفة الناي)، داليت فريدمان، لم توهب تناغُم وعذوبة فيروز، لكنها تتحكم في حنجرتها، وتتاقلم بشكل ممتاز مع إيقاع العزف.
فرقة “توركيز”، التي أنشئت بهدف تكريم المطربة الأسطورية، تقدِّم أغنية “ياكرم العلالي”:
http://www.youtube.com/watch?v=PqDnatD95E4&feature=youtu.be
مَن يدري؟ فقد يأتي السلام المنشود يومًا، ويحظى الإسرائيليون أيضًا بعيش الاختبار الرائع وسماع صوت فيروز اللطيف والمهدِّئ. أم كلثوم وفريد الأطرش غادَرانا، لكنّها لا تزال موجودة. سيستمرّ صوتها يصدح حول عظمة الطبيعة، ازدهار الربيع، لينسينا الحروب والألم غير المنتهي. ألا يبدو ذلك مهمة جيّدة لـ “سفيرتنا إلى النجوم”؟
وكيف يمكن أن نُنهي دون أغنية أخرى من روائع “جارة القمر”؟ “سألوني الناس” – وهي الأعظم:
http://www.youtube.com/watch?v=0_sexRkBg_w&feature=youtu.be