“كانت أعمال اليهودي متأثرة دائمًا ببيئته”، هكذا افتتح ديفيد ولفسون كتابه “الحركة الإصلاحية اليهودية” (The reform movement in Judaism). يكمن في هذه الكلمة السبب الرئيسي للثورة في أوساط التيار الإصلاحي اليهودي الديني، الذي يعتقد أن اليهودية يجب أن تتغير وفق البيئة. يعتقد أتباع التيار الإصلاحي اليهودي، أن على اليهود قبول التأثيرات الخارجية، ودفع طقوس دينية ووصايا الشريعة اليهودية قدما وفق الفترة التي يمر فيها. تثير هذه الفكرة التي بدأت تتطور في نهاية القرن الثامن عشر معارضة كبيرة في أوساط اليهود من تيارات أخرى، لا سيّما في أوساط اليهود في إسرائيل.
ليس صدفة أن معظم الأدبيات المكتوبة حول التيار الإصلاحي هي باللغة الإنجليزية وليست بالعبرية. وفق استطلاع مركز بيو للأبحاث (PEW) منذ عام 2013، يتماهى معظم اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل مع مبادئ التيار الإصلاحي. هذا التيار مُسيطر بشكل خاصّ في أمريكا الشمالية، كندا، وسائر أوروبا.
ولكن في إسرائيل تحديدًا، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تعرّف نفسها كدولة يهودية، فإن التيار الإصلاحي الذي بدأ يكتسب زخما منذ القرن الماضي ما زال يشكل أقلية فيها. يُدعى التيار اليهودي المركزي في إسرائيل التيار “الأرثوذكسي” ولا يعترف معظم أتباعه بشرعية التفسيرات الإصلاحية للدين اليهودي. تشهد على ذلك أقوال الحاخام الرئيسي في إسرائيل سابقا، الحاخام شلومو عامر، في الأسبوع الماضي: “مَن يسعى إلى تغيير الترتيبات المعمول بها يدنس المقدسات. يخالف الإصلاحيون مبدأ وجودنا. فهم مخطئون ويوقعون آخرون في الخطأ”.
إذا، ما هي تفسيرات اليهود الإصلاحيين للديانة اليهودية، ولماذا تثير غضبا عارما في أوساط اليهود الأرثوذكسيين؟ تشكل الشريعة اليهودية مركز الجدل، وهي منظمومة القواعد اليومية لدى اليهود. لا ينظر التيار الإصلاحي إلى الشريعة اليهودية التقليدية بصفتها منظومة ملزمة تتضمن قواعد وقوانين حظر بل على الأكثر كمصدر إلهام. في الواقع، في وسع التيار الإصلاحي الفردي أن يقرر لنفسه أية وصايا يتماهى معها ويرغب في العمل بموجبها وأية لا. يعتبر الحاخام في التيار الأرثوذكسي الصلاحية الدينية الوحيدة التي تحدد ما هو مسموح أو غير مسموح، في حال وجود شك وليس في وسع الشريعة اليهودية توفير إجابات واضحة. أما إذا كانت الشريعة واضحة في تلك الحالات فعلى الأرثوذكسيين العمل بموجبها.
ولكن بدلا من ذلك، يجري حاخامون إصلاحيون فصلا بين الإيمان والروحانية الدينية، وبين الطقوس والقوانين الدينية. فهم يعتقدون أن الإيمان هو أساس الدين الحقيقي، أما طقوس الشريعة اليهودية وقوانينها فهي أقل أهمية، وهي بمثابة وسائل لتحقيق المكاسب الروحانية، بحيث لم تعد في وقتنا هذا ملائمة ويجب تحديثها. “نعمل بموجب القوانين ذات الصلة بالأخلاق بصفتها قوانين ملزمة، ونحافظ على الطقوس التي تقدس حياتنا وتثريها فقط”.
مثلا، في الصلاة الاحتفالية الخاصة بأيام السبت، تشغّل في الكنس التابعة للحركة الإصلاحية معدّات كهربائية مثل الميكروفونات ومكبّرات الصوت. كما ويصل الكثير من اليهود إلى الكنيس بواسطة سيارتهم الخاصة. كما ويُسمح بأن يرافق العزف على القيثارة، البيانو، وغيرها الصلاة. بالمُقابل، وفق الشريعة اليهودية تعتبر كل هذه النشاطات مثل تشغيل أجهزة كهربائية، السفر في السيارة، والعزف أيام السبت خطية “تدنيس يوم السبت” ويفرض الله عقوبة الموت لقائها.
كذلك هناك جدل مبدأي حاد بين الإصلاحيين والأرثوذكسيين اليهود. فلا تسمح الشريعة اليهودية بأي شكل من الأشكال لأي رجل أو امرأة أن يتزوجا من غير اليهود. فهي تحظر الزواج المختلط. يعارض الأرثوذكسيون هذا النوع من الزواج. ويذكر كل حاخام أرثوذكسي فورا اقتباسات من سفر التثنية الفصل السابع الآيتين 3-4: “وَلاَ تُصَاهِرْهُمْ. بْنَتَكَ لاَ تُعْطِ لابْنِهِ، وَبِنتْهُ لاَ تَأْخُذْ لابْنِكَ. لأَنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى، فَيَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ وَيُهْلِكُكُمْ سَرِيعًا”. بالمقابل، الجاليات الإصلاحية أكثر تسامحا حول الزواج المختلط، وتسمح بأن يعيش الزوجان غير اليهوديين في أوساطها.
من جهة أخرى، هناك عدة مبادئ لدى الإصلاحيين لا يتنازلون عنها أبدا، ومن بينها المساواة بين النساء والرجال. التيار الإصلاحي هو التيار الأول الذي سمح للنساء بتأدية وظائف يؤديها بشكل تقليدي الرجال. فتسمح الجاليات الإصلاحية بأن تكون النساء حاخاميات، تدير الصلاة، وتجري مراسم زواج، وغيرها. يعتقد أتباع اليهودية الإصلاحية أن هذا التيار هو نسخة متقدمة وليبرالية من الدين في حين يعتبرون التيار الأرثوذكسي قديما ومحافظا.
تحظى أفكار التيار الإصلاحي بتأييد كبير في أوساط يهود الغرب. فهو يسمح بملاءمة نمط الحياة اليهودي مع نمط الحياة الغربي المعاصر. ولكن يعتقد معظم اليهود في إسرائيل، الذين يؤمنون بالتيار الأرثوذكسي، أن التيار الإصلاحي يشكل خطرا وجوديا يهدد باختفاء اليهودية. وفق قلقهم، فإن التساهل الذي يبديه الإصلاحيون سيؤدي إلى زواج الكثير من اليهود مع أبناء الديانات الأخرى بحيث لن يكون أطفالهم جزءا من الشعب اليهودي. ويعتقد الأرثوذكسيون أن الانخراط في أوساط البيئة الغريبة قد يؤدي إلى انقراض الشعب اليهودي.
هل مخاوف الأرثوذكسيون صادقة؟ هل يؤدي الإصلاحيون إلى نقص عدد اليهود وهل “يعملون خلافا لمبدأ وجودهم”، أو أنهم يسمحون تحديدًا للكثير من اليهود بالتقارب من اليهودية بطريقتهم الخاصة وينقذونهم من الاختفاء التام في بيئة غريبة؟ ستخبرنا الأيام، وفي هذه الأثناء يبدو أن الجدال المستعر بين اليهود الإصلاحيين والأرثوذكسيون سينفجر ثانية بقوة كل بضع سنوات. ليس في وسعنا أن نعرف فيما إذا ستزداد حدة هذه الجدالات، وهل ستؤدي إلى انقسام الشعب اليهودي، أو أن كلا التيارين المتناقضين سيجدان طريقة للعيش معا.