الثورات في العالم العربي، والتي أدت إلى إسقاط بعض الأنظمة العربية، وحركة المقاطعة العالمية ضدّ إسرائيل (BDS) هما وجهات لنفس العملة القطرية. تدير الدولة الأصغر في الشرق الأوسط منذ نحو عقد من الزمن حملة منظّمة ومنهجية لبناء نظام جديد في الشرق الأوسط يمزج بين القومية العربية والإسلام السياسي.
تحقّقَ استقرار دولة قطر الداخلي بفضل تركيبتها السكانية: نحو 300 ألف مواطن ونحو مليون من العمال الأجانب المهاجرين؛ سياسة رعاية اجتماعية سخيّة جدّا؛ تعزيز الثقافة والهوية الوطنية (من بين أمور أخرى، من خلال توفير حوافز للرجال القطريين فيما يتعلق بالزواج من النساء القطريات وحظر الزواج من الأجانب على النساء المحلّيات) وبالطبع دعم الإسلام السياسي. ولكن، يسعى حكام قطر إلى مكانة مركزية ونفوذ إقليمي، وقد قاموا بذلك من خلال علاقات خاصة نسجوها مع ثلاثة شخصيات: الشيخ يوسف القرضاوي، عزمي بشارة وخالد مشعل.
منح القرضاوي، الذي يعتبر أكبر الفقهاء الناشطين اليوم في عالم الفقه السنّي، إذنًا دينيّا لإسقاط الأنظمة الاستبدادية العربية وأُرسِل إلى ميدان التحرير في مصر من أجل دعوة الثوار المسيحيين والمسلمين إلى توحيد القوى. وكان عزمي بشارة، عضو الكنيست السابق والفيلسوف والمفكّر العربي، بوصلة للثوار الشباب في تونس، مصر، سوريا وليبيا وشجّعهم على الانتقال من خطاب الغضب إلى خطاب الثورة. انفصل خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، عن “محور المقاومة” الذي يمتدّ بين إيران، سوريا وحزب الله، وانضم إلى قطر وأصبح أحد شركائها الرئيسيين، إلى جانب مصر، في جهود الوساطة بين حماس وإسرائيل.
إنّ الخطاب الفلسفي والسياسي لدى عزمي بشارة، الذي يروّج له في كتبه، مقالاته ومقابلاته الإعلامية، والخطاب السياسي الجديد الذي يقوده خالد مشعل في الساحة الفلسطينية الداخلية والساحة الدولية، والخطاب السياسي الذي يقوده أمير قطر متشابه جدّا. الصورة المتشكّلة هي سعي متكامل لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: بناء جيل جديد من المثقّفين العرب الذين سيلعبون دورا رئيسيًّا في الأنظمة الجديدة وسيمزجون بين العروبة، الإسلام والليبرالية؛ نزع الشرعية عن الاحتلال الإسرائيلي للمناطق وإضفاء الشرعية على إقامة دولة فلسطينية مستقلّة؛ وتعزيز الخطاب العربي – الإسلامي الفخور والذي لا يخنع أمام الغرب.
من المفترض أن يتم تأسيس قناة الجزيرة وقناة أخرى في المستقبَل، وصحيفة باسم “العربي الجديد” ومواقع مختلفة على الإنترنت والتي هي إمبراطورية إعلامية قطرية قوية جدّا، يلعب بها عزمي بشارة دورا رئيسيا. تؤسس نشاطات عزمي بشارة الحثيثة في موضوعات التعليم والثقافة، من بين أمور أخرى، للأصالة الثقافية العربية، لقطر وقادتها، وتمكّنها من تمهيد الطريق إلى قلوب ملايين الشباب العرب الذين يتوقون لخطاب ليبرالي جديد.
ينسجم القرضاوي ومشعل جيّدا في هذه الصورة. إنّ النشاط الحثيث للقرضاوي في تعزيز نهج “الوسطية”، والذي يدعم التماسك الإسلامي الداخلي ويسمح بالانفتاح على الغرب انطلاقا من مكانة الأنداد لا التابعين، يمنح أمير قطر بنية تحتية دينية لاعتماد مسارين سياسيَين متوازيين: الاحتماء بالغرب ضدّ التهديدات الخارجية، وإظهار التعاطف والدعم للحركات الإسلامية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وقد حدث تغيير على خطاب مشعل من الكفاح المسلّح إلى الكفاح السياسي، حتى لو كان حاسما وغير ممكن، والذي يهدف إلى إقناع العالم بمركزية حماس السياسية وبشرعيّتها في المنظومة الفلسطينية. بدا هذا التغيير نتيجة لوجود مشعل المستمرّ في بلاط الأمير في قطر. تشرّب زعيم حماس من القرضاوي موهبته في “المجادلة بلطف” مع إسرائيل ومع الغرب، ومن عزمي بشارة عادته أن يتحدّث بلغة تحترم حقوق الإنسان وقدسية الحياة بدلا من لغة الجهاد التي تُقدّس الموت وتثير البغض تجاه الإسلام. بشارة مقتنع منذ سنوات طويلة، وهو أمر واضح في نشاطاته العامة، أنّ إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة سيأتي على أجنحة خطاب مقاومة الأبارتهايد وليس بواسطة خطاب معادٍ للسامية ومعادٍ لليهود.
يتفق مع هذا التوجّه عمر البرغوثي، المولود في قطر من أصول فلسطينية، والذي يترأس حركة المقاطعة العالمية (BDS) والتي تأسست عام 2005 بهدف تعزيز المقاطعة الأكاديمية، الاقتصادية والثقافية ضدّ إسرائيل. وبشكل مماثل لبشارة، لا يؤمن البرغوثي بحلّ الدولتين ويعمل على تعزيز فكرة “الدولة الواحدة” بهدف تقويض الهيمنة اليهودية القائمة من البحر إلى النهر من أسسها. ويدلّ النشاط الواسع لحركة المقاطعة حول العالم والنجاحات التي تسجّلها مؤخرا على مصادر دعم وتمويل سخية. يمكن التساؤل أيضًا: هل الإدارة الأمريكية، التي يئست من الرفض الإسرائيلي لتشجيع التوصل إلى تسوية سياسية، تقف جانبًا على ضوء خطاب المقاطعة الدولية ضدّ إسرائيل.
إنّ المحاولة المتراكمة للشعوب والدول تثبت أنّ الرفض السياسي قد جلب للجانب الأقوى تسويات كانت أكثر سوءًا بالنسبة له من اقتراحات سابقة طُرحت على الطاولة. قطر هي دولة صغيرة في الشرق الأوسط ولكن مواردها تعطيها قوة نادرة وقدرة على التأثير على الاستقرار الإقليمي. من المهم تسخيرها لتعزيز تسوية سياسية مع القيادة الفلسطينية، لأنّ الأمر سيزداد سوءًا فقط.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع “Can Think”