تشكل عملية تدريس موضوع الهولوكوست (وانا هنا لا اريد استخدام الترجمة العربية “المحرقة” لانها لا تعبر عن الواقع) في فلسطين تحدّ كبير بسبب استمرار الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي. واذا كان الغرب يعتبر بان مسألة تدريس المحرقة لا تقتصر على اليهود، فان العرب، لا سيما الفلسطينيين، ينظرون اليها بطريقة مغايرة أي كشأن يهودي بحت. وهنا تكمن التحديات أمام تدريس الهولوكوست في فلسطين. ونجدها على أربع مستويات: التعليمية والسياسية والدينية والنفسية.
فعلى المستوى التعليمي، لم تكن احداث ووقائع الهولوكوست تُذكر بصفة تقليدية في النصوص المدرسية العربية أو الفلسطينية، كما لم تكن ولا تزال لا تُدرّس في المدارس أو الجامعات العربية او الفلسطينية. فهذا أمر يتم تجاهله كلياً في دروس التاريخ بسبب النزاع العربي الاسرائيلي. وبهذا، فإن غالبية العرب والفلسطينيين يجهلون هذا الحدث المأساوي في التاريخ الانساني،
وعلى المستوى السياسي، فإن الفلسطينيين هم الأمة الوحيدة في العصر الحديث التي لا تزال تحت الاحتلال العسكري، وشأنهم شأن بعض الشعوب الأخرى، فهم محرومون من حق تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية مدنية ديمقراطية ومستقلة. ومن ثم، فإن معظم الفلسطينيين ينظرون إلى الهولوكوست باعتباره مصدر يوم نكبة عام 1948 الذي يحتفل به الإسرائيليون باعتباره عيداً للاستقلال للدولة اليهودية. ويدفع الصراع العديدين للنظر إلى تلك المسألة على أنها دعاية صهيونية تهدف إلى خلق تعاطف مع القضية اليهودية. في حين يعتبره البعض دعاية صهيونية او حدث مضخم لكسب العطف الدولي للدولة اليهودية.
وعلى المستوى الديني، فإن النزعة الراديكالية لدى البعض في فلسطين، في تدريس دين الإسلام تشدّد على وجود تصادم في القيم والمعتقدات ما بين الإسلام من جانب، واليهودية والمسيحية من جانب آخر. وعليه فان تفسير عدد من آيات القرآن الكريم وشرحها يتم بطريقة تدعم هذه الحجة. على سبيل المثال، يقول الله تعالى في الآية 143 }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً{ ولكن بدلاً من تفسير الآية على أنها تدعو للعدالة والتسامح والاعتدال، يجري تفسيرها على النحو التالي: “المسلمون أمة وسط بين اليهود الذين قتلوا الأنبياء والمسيحيين الذين ألهوا نبيهم”. المثال الآخر هو طريقة تدريس الآيات الأخيرة من سورة الفاتحة والتي تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (المسلمين بدلاً من المؤمنين) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (اليهود بدلاً من غير المؤمنين) وَلَا الضَّالِّينَ (المسيحيين بدلاً من المنافقين)}. ايضا، طريقة تدريس الآيات التي تعتبر الدين عند الله سبحانه وتعالى الاسلام فهل نعنى بدلك الدين الاسلامي فنستثني الديانات السماوية الآخرى كاليهودية والمسيحية أو نعني من آمن بالله وسلم له وعبده فلا نستثني الديانات السماوية الآخرى كاليهودية والمسيحية.
ومن بين الأحاديث الواسعة الانتشار التي تُنسب، أو إن أردنا الدقة، التي تُنسب خطأً إلى الرسول (ص)، قوله: ” لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم ! يا عبدالله ! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود .” والنص الديني الذي يتم تدريسه في المدارس يقول: ” في هذا الحديث النبوي يخبرنا الرسول (ص) بأحد أشكال المعارك بين المسلمين واليهود…” تجدر الاشارة هنا الى ان هذا الحديث يتناقض مع آيات القرآن التي تعظِّم حرمة الحياة بحسب ما يرد في الآيات التالية: }وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ{ [سورة الإسراء، الآية 33]،} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ{ [سورة الأنبياء، الآية 107] وتشمل هذه الرحمة جميع البشر ومن بينهم اليهود والمسيحيين وغير المؤمنين. وما من شك في أن الحديث المشار إليه أعلاه يتناقض مع الآيات التالية: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة هود، الآية 118] } لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [سورة البقرة، الآية 256] ؛ {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ.{ [سورة الكهف الآية 29]؛ }إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.{ [سورة السجدة الآية 25 ] }فالله يحكم بينكم يوم القيامة} [سورة النساءالآية141]. كما أن النص يتعارض مع رواية البخاري التي تقول: “مرت جنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام لها احتراما للميتً، فقيل له يا رسول الله: “إنها جنازة ليهودي”. فاجاب: “أليست نفساً؟”
إن القرآن الكريم يحترم التوراة والإنجيل ويصفهما بالكتابين المقدسين. كما يشير إلى اليهود والمسيحيين بلفظ: “أهل الكتاب”، أو “الذين أوتوا الكتاب”. وهناك نحو 60 آية في القرآن تخاطب اليهود مباشرة كما في قوله تعالى: }يا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ{ [سورة البقرة؛ الآية 47].
اما على المستوى النفسي، فإن المجتمع الفلسطيني يعاني من جرح عميق لم يبرأ بعد. ورغم أن احداث الهولوكوست وقعت في الماضي، إلا أن محنة الفلسطينيين ما زالت مستمرة في الحاضر. ومن ثم، يصعب جداً أن تطلب من الضحايا الذين يعانون من احتلال لوطنهم ومصادرة مستمرة لأراضيهم وممتلكاتهم ومعاناة احبائهم في المعتقلات وحرمانهم من حقوقهم الانسانية أن يتعرفوا على معاناة الآخر.
استراتيجية لتدريس الهولوكوست
يطرح الفلسطينيون السؤال التالي: “لماذا ينبغي أن نتعلم عن الهولوكوست؟” وإجابتي هي ان قيمة التعرف على الهولوكوست تكمن فيما يلي:
(1) ان التعلم عن الهولوكوست مؤشر على احترام الحقيقة. اما إنكار الحقيقة أو تجاهلها فانه يدمِّر القيم التي يعتز بها المرء.
(2) ان هذا هو الشيء الصواب. فانتقادنا على أمر ما لا يعني بان علينا تجنبه او نتجاهله.
(3) إنكار الهولوكوست خطأ تاريخي وغير مقبول أخلاقياً.
(4) الحاجة إلى التعرف على الدروس المأساوية من الماضي ضرورة لتجنب حدوثها مرة أخرى في المستقبل.
(5) يحث القرآن الكريم على طلب المعرفة والعلم: }…وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما.ً{ [سورة طه، الآية 20]. وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (سورة الزمر، الاية 9)
(6) يحث االرسول (ص) على طلب المعرفة والعلم: وقد روي عن الرسول (ص) قوله: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”. وقوله: “اطلبوا العلم ولو في الصين”.
(6) يقول الحكماء أنه بدون معرفة الشر لا نستطيع أن نفهم معنى الخير.
(7) إظهار التعاطف والشفقة تجاه معاناة الآخرين، حتى إذا لم تجمعكم صداقة أو أواصر محبة، سوف يجعل هذا العالم مكاناً أفضل للعيش فيه.
إن النهج التعليمي يمثّل أهمية قصوى عند تدريس مواضيع حساسة. لذا فإنني أشجّع التعلم النشط من خلال إقرار الخطوات التالية لتدريس مثل هذا الموضوع المثير للجدل:
(1) تدريس اهمية التفكير الناقد والإبداعي.
(2) تدريس اهمية تبني الوسطية والاعتدال.
(3) تدريس المحرقة إلى جانب عمليات الإبادة الجماعية الأخرى في التاريخ الحديث، كما حدث في رواندا، مع شرح الروابط والتشابكات. وسيكون من المفيد للغاية الاستعانة بأفلام وثائقية كأداة تعليمية.
لقد وجدت صعوبة بالغة في العثور على نص دراسي باللغة العربية عن الموضوع، لهذا شاركت في تأليف كتاب مع زينة بركات ومارتن رو بعنوان: (الهولوكوست – المعاناة البشرية: هل يوجد مَخرج من العنف؟) (2012)
وفي الختام، عندما تم عرض فيلما وثائقياً عن الهولوكوست في جامعة القدس، رفع أحد الطلاب يده وسأل: “لماذا ينبغي أن نتعلم عن المحرقة في حين أن الإسرائيليين جعلوا استخدام مصطلح النكبة غير قانوني وحظروا ذكر أي شيء بخصوصه في نصوصهم المدرسية؟” وكانت إجابتي دقيقة ومقتضبة: “لا تهتم بما يفعله الآخر، بل افعل ما تراه الصواب”.
الأستاذ محمد سليمان الدجاني الداودي هو مؤسس حركة الوسطية في فلسطين، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع “فكرة”