من ينظر من الخارج ويرَ الصلبان، السقوف المذهبة والأجراس التي تزيّن سماء إسرائيل، سيصعب عليه أن يصدّق أنّ السكان المسيحيين يشكّلون مجرّد 2 في المئة من عدد سكّان إسرائيل (مقابل 75% يهود، 16.5% مسلمين، 1.7% دروز، فيما لم تُذكَر ديانة الباقين).
في سنة 2014، وفق دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، ثمة نحو 163،000 “مسيحي” في إسرائيل، من بينهم نحو 80% “عرب مسيحيون”، والباقون هم بشكل أساسيّ مهاجرون من الاتّحاد السوفياتي (ذوو جذور مختلطة مسيحية – يهودية)، قسم منهم مهاجرون من أجل العمل أو أعضاء طاقم كنسيّ ثابت، وقسم آخر من مجموعات عرقية غير عربية (كالأرمن).
تعود بداية المسيحية في البلاد إلى فترة حياة وخدمة يسوع المسيح. بعد موته، أنشأ أتباعه أول جماعة مسيحية في التاريخ في القدس وقربها. مع الوقت، انتشر “المسيحيون” في كل أنحاء البلاد، مع ازدياد (في الفترة الرومانية المتأخرة) وانخفاض (في الفترة الإسلامية). لكن على مرّ السنين، بقيت “نواة مسيحيّة” في إسرائيل، وهي تتركز في القرون الأخيرة في ثلاث بؤر رئيسية: القدس، الناصرة، وحيفا.
ومن معطيات دائرة الإحصاء المركزية، يتبيّن أنّ 71% من المسيحيين العرب يعيشون في لواء الشمال، 13% في لواء حيفا، و9.5% في لواء القدس. أمّا “المسيحيون غير العرب” فيتوزعون على المحافَظات المختلفة. والمدن ذات أكبر عدد من السكان المسيحيين العرب هي الناصرة (نحو 22،400)، حيفا (14،700)، القدس (12،000)، وشفاعمرو (9،700). أمّا التجمعات الأكبر للمسيحيين غير العرب فهي في المدن الكبرى الثلاث – حيفا، القدس، وتل أبيب.
مهمّون رغم قلّة عددهم
رغم نسبتهم القليلة بين السكّان، فإنّ حضور السكان المسيحيين في إسرائيل ملحوظ. فكل سنة، تمتلئ إسرائيل في كانون الأول بلونَي الأحمر والأخضر، بصور “بابا نويل”، بأضواء ملوّنة، وزخرفات أخرى استعدادًا لعيد الميلاد. ويتدفق آلاف الإسرائيليين على مناسبات “عيد الأعياد” في حيفا مشارِكين في الاحتفالات.
كذلك يجري الاحتفال بأعياد أخرى مثل “عيد الشُّكر” و”عيد الفصح” في إسرائيل، فتتحوّل الكنائس المتعددة في البلاد، التي يؤمها السياح، إلى مراكز حجّ للزوار من العالم المسيحي. أبرز الكنائس هي تلك التي يُقال إنها ترتبط بأحداث هامّة في حياة يسوع – كنيسة البشارة في الناصرة، كنيسة المهد في بيت لحم في السلطة الفلسطينية، وبالطبع كنيسة القيامة، الموجودة في نهاية “فيا دولووزا”، طريق آلام المسيح، والمكان الذي صعد منه المسيح إلى السماء، وفق الاعتقاد الكنسيّ.
عالم مصغَّر للحجّ
تعجّ المدينة القديمة في القدس، الموجود فيها “فيا دولوروزا”، بالسيّاح والحجّاج، والسوق فيها ملأى بالتذكارات مثل قلادات الصليب الفضيّة، تماثيل للمسيح مصلوبًا منقوشة على خشب زيتون، قابضات مفاتيح للمسيح طفلًا، سبحات صلاة، وغيرها.
فيما يحيط به الحي اليهودي من جانب، والحي الإسلاميّ من جانب آخر، يستمر الحيّ المسيحيّ في القدس يشكّل عالمًا مصغّرًا للحجّ. لكن الوضع بعيدٌ عن المثالية، فالوقف الإسلامي هو الذي يحتفظ بمفاتيح الكنيسة الأقدس في العالم المسيحي، والسلطات اليهودية مسؤولة عن كل شيء آخر.
كذلك الوضع الداخلي بين الطوائف المسيحية ليس بسيطًا. الطوائف المسيحية في إسرائيل تنقسم إلى أربع فئات أساسية: الأرثوذكس (مثل كنيستَي الروم الأرثوذكس والروس الأرثوذكس)، الأرثوذكس الشرقيين (مثل الكنائس الأرمنية، القبطية، الإثيوبية، والسريانية)، الكاثوليك الرومان (اللاتين والشرقيين – الروم الملكيين الكاثوليك)، والبروتستانت. تضمّ هذه الطوائف نحو 20 كنيسة قديمة ومحلية ونحو 30 مجموعة أو تيّارًا آخر، معظمها بروتستانتي. يُذكر أنه بالنسبة لممارسة الدين، تحظى الطوائف المسيحية بحرية عبادة تامّة وبحماية قانونية.
هويّة معقّدة
يرى “المسيحيون” أنفسهم جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الإسرائيلي، حتى إنّ موضوع تجنّد العرب المسيحيين للجيش الإسرائيلي طُرح مؤخرًا. نسبة الشبّان الذين يتجندون للجيش من الطوائف المسيحية هي في ازدياد في السنوات الماضية، كما يطالب البعض بمنحهم مسارًا مشابهًا بذاك الذي للشبّان اليهود.
في هذا المجال، تحظى الطوائف المسيحية بدعم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي أوعز أخيرًا بإقامة “منتدى لتجنيد المسيحيين إلى الجيش الإسرائيلي” والخدمة الوطنية، بالتنسيق مع زعماء الطوائف الذي قالوا: “نرى أنفسنا مواطنين متساوي الحقوق – وكذلك الواجبات”. يُذكَر أنّ أعضاء الكنيست العرب في إسرائيل عارضوا المبادرة بشدّة.
وهذا مجرّد مثال صغير على التخبّط اليومي الذي يعيشه “العرب المسيحيون” في إسرائيل، الذين يُعتبَرون أقلية من الناحية الدينية، السياسية، والحضاريّة. وكشف بحث أُجري في جامعة بن غوريون فحص العلاقات بين الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين في إسرائيل وفي الضفة الغربية النقاب عن نتائج مثيرة للاهتمام بخصوص شعور “المسيحيين” بالانتماء:
“في الضفة الغربية وإسرائيل على حدٍّ سواء، مال المسيحيون، أكثر من المسلمين، إلى الحفاظ على روايتهم ورفض رواية الطرف الآخر. وقد بلوروا أفكارًا نمطية سلبية أكثر عن مجموعة “الآخر” (الطوائف المسيحية في إسرائيل عن الفلسطينيين، وفي الضفة عن الإسرائيليين) ومالوا أكثر إلى المنافسة، وأقلّ إلى الاندماج”.
وكان الاستنتاج الأساسي للبحث أنّ “الحاجة إلى الشعور الانتماء والتكتّل الداخلي هي حيوية، ويُبذَل جهد أكبر لفعل ذلك حين تشعر المجموعة بالخطر، ما يجعلها تنفرز عن المجموعات “الأخرى”. كلّما كبر التهديد الخارجي – تزداد الحاجة إلى التكتّل الداخلي وإلى هويّة مميّزة أكثر”. بما أنّ الصراع بين المسلمين والمسيحيين قائمٌ بالتوازي لصراع المجموعتَين معًا مع اليهود، يبدو أنّ الصراع المشترك يتيح للمسيحيين الشعور بالانتماء والفخر”.
الوجه نحو الغرب
يُعدّ السكان العرب المسيحيون في إسرائيل منفتحين كثيرًا على الغرب، ويشابه نمط حياتهم ذاك الذي لليهود، أكثر من نمط حياة العرب المسلمين في إسرائيل. فبشكل مشابه للدول الأوروبية أكثر من دول الشرق الأوسط، يُعدّ جيل الزواج بين عرب إسرائيل من أبناء الطوائف المسيحية الأعلى في الدولة (أكثر حتى من اليهود)، ومعدل الأبناء في الأسرة هو اثنان فقط (وفق بيانات دائرة الإحصاء المركزية).
ويكشف الفحص على مرّ السنين أنّ العرب المسيحيين لديهم نسب نجاح أعلى في البجروت، مقارنةً بالمسلمين والدروز، وكذلك مقارنةً بطلاب المدارس العبرية عامّةً، كما أنّ نسبة الذين يتابعون دراستهم الأكاديمية هي من أعلى النسب في البلاد.
مع ذلك، فإنّ اندماجهم في المجتمَع بعيد عن المثالية، ولا يزالون يعانون من تمييز طائفي ومن تعابير عنصرية من باقي سكان إسرائيل. داخل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني والإسرائيلي – العربي، وجد مواطنو إسرائيل من أبناء الطوائف المسيحية أنفسهم داخل العاصفة، وكثيرًا ما يكون زعماء الطائفة وسطاء، ويحاولون نقل رسائل سلام، محبّة، وتعايُش.