في 8 أيار عام 1945، عندما وقعت القوات الألمانية المهزومة على اتفاقية الاستسلام لجيوش الحلفاء، كانت الفرحة تغمر العالم. وصل تهديد الحرب إلى نهايته.
مع انتهاء المعارك بدأت الحياة الطبيعية تعود رويدا رويدا، ولكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للجميع. عشرات الآلاف، من الناجين من معسكرات ومسيرات الموت، تم تحريرهم من قبل الحلفاء على أرض ألمانيا وفي أماكن أخرى وهم في حالة بدنية سيئة للغاية وفي صدمة نفسية. وجد معظم اليهود الذين نجوا من الحرب أنفسهم وحيدين في العالم، دون أي أحد، جميع أقاربهم لقوا حتفهم في الحرب، دون مال، ودون أي مكان للعودة إليه، ودون أمل.
بدأت الإشاعات حول أبعاد الهولكوكوست بالانتشار، وعمّقت اليأس: قُتل ستّة ملايين من أبناء الشعب اليهودي، ثلث الشعب كله، وتمت إبادتهم وكأنّهم لم يكونوا. تم القضاء على عائلات بأكملها. ويذكر الناجون الذين يتحدثون عن لحظات التحرير مشاعر مختلطة، بين الارتياح الكبير والشعور بتحقق الأدعية من جهة، ولكن من جهة أخرى كان هناك شعور الفراغ والعزلة.
“رغم أننا رأينا فعلا في أوشفيتز الدخان الصاعد في المساء وعلمنا أنّهم أولئك الذين غادروا في الصباح، كنت لا أزال آملُ أنّه ربما بقي أحد. ولكن أحد ما لم يبقَ”، كما يقول ناحوم بندل، أحد الناجين من أوشفيتز.
وقال يتسحاق (أنتيك) زوكرمان، الذي كان أحد قادة تمرّد غيتو وارسو: “بدا لي، بأنّه لم يكن هناك حزن كبير مثلما كان في يوم الفرح هذا… كان ذلك اليوم هو اليوم الأكثر حزنا في حياتي. أردت أن أبكي، ليس من الفرح وإنما من الحزن. أفراد طاقم الدبابات وهم يقبّلون بعضهم البعض، الأزهار الملقاة عليهم، فرحة الجموع، الشعور بالحرية والفداء ونحن نقف بين الجموع وحيدين، يتامى، أخيرين، ونعلم جيّدا بأنّه لم يعد هناك شعب يهودي. أية فرحة يمكن أن تكون؟”
وكتبت روت بوندي، المولودة في براغ وإحدى الناجيات من أوشفيتز، عن الشعور الذي يرافق الإنسان الوحيد الذي ينجو: “كيف ننجو؟ في الدراسات، في القصص، في الأشعار، يتكرر موضوع الشعور بالذنب الذي يقع على الناجين من الهولوكوست طوال أيام حياتهم، على أولئك الذين نجوا بعد أن دُمّر عالمهم كلّه. كلّما حاولت الغوص في أعماقي السوداء من تجربة الهولوكوست، لا أجد فيها شعورا بالذنب لكوني قد بقيت على قيد الحياة. ذهول، فرح على كل يوم آخر، ورغبة في عدم تبذير الوقت المتبقي، ألم الخسارة، دين لأولئك الذين لم يحظوا؛ ولكن ليس ذنبًا”.
الحرب العالمية بالأرقام:
بدأت الحرب في 1 أيلول عام 1939 مع غزو ألمانيا النازية لبولندا، وانتهت في 8 أيار عام 1945 مع توقيع ألمانيا النازية على معاهدة الاستسلام النهائية.
قُتل خلال الحرب نحو 64.5 مليون إنسان، أكثر من أي حرب أخرى في التاريخ.
من بينهم، نحو 6 ملايين يهودي قُتلوا بشكل منهجي من قبل النازيين، ومن بينهم نحو 1.2 مليون طفل يهودي.
نجا نحو 250 ألف من يهود أوروبا من الهولوكوست.
خرج الكثير من الناجين للبحث عن أسرهم، أقربائهم وأصدقائهم الذين ربّما يكونون قد نجوا. قرّر الكثيرونالعودة إلى أماكن عيشهم عشية الحرب، ولكن اللقاء مع المنزل الذي تم خسارته كان لا يطاق. في بعض الأماكن التي عادوا إليها، وخصوصا في أوروبا الشرقية، صادف الناجون مظاهر شديدة من العداء للسامية، وقُتل منهم نحو 1,000 في السنوات الأخرى بعد الحرب من قبل السكان المحليّين الذين سيطروا في تلك الأثناء على الممتلكات المتروكة.
في أعقاب الأنباء عن أحداث من ذلك النوع، فهم معظم اليهود بأنّه لا أمل بتجديد حياتهم في ذلك المكان، وسعوا إلى مغادرة أوروبا. اختار نحو ثلثي الناجين عدم البقاء في أوروبا عند نهاية الحرب وقرّروا الهجرة إلى أرض إسرائيل. ولكن الوصول إلى البلاد كان يحتاج إلى كفاح بسبب السياسة التي اتّخذتها سلطات الانتداب البريطانيّ والتي لم تسمح بدخول اللاجئين. في إطار محاولة اختراق الحدود، تم تنظيم هجرة غير قانونية في السفن، عن طريق موانئ البحر المتوسّط باتجاه أرض إسرائيل. هاج ثلث الناجين إلى الولايات المتحدة، أمريكا اللاتينية، جنوب إفريقيا، كندا وأستراليا.
اضطر الكثير من الناجين، الذين لم تكن بحوزتهم أية وسيلة، إلى الانتقال إلى “مخيّمات النازحين” التي أقامها الحلفاء في وسط أوروبا (في ألمانيا، النمسا وإيطاليا). كان يعاني الذين يعيشون في مخيّمات النازحين من صعوبات كثيرة. عاش ناجون وراء الأسلاك الشائكة وهم جوعى، يرتدون الخرق، وقد عانوا من عدم يقين يصيب باليأس بخصوص مستقبلهم. وَلّدَ شعور الانفصال في بعض الأحيان اللامبالاة والتقاعس. رغم ذلك تزوّج الكثير من الناس في تلك المخيّمات وأنجبوا أطفالا. أقام الناجون في مخيمات النازحين مؤسسات تربويّة، وأصدروا أكثر من سبعين صحيفة، بادروا إلى مشاريع التخليد وإحياء الذكرى بل وأسّسوا مسارح وفرق موسيقية.
يقول الكاتب أهارون أفلفيلد، أحد الناجين من الهولوكوست ممّن هاجروا إلى البلاد بعد الحرب: “عشنا لسنوات أقرب ما يكون إلى الموت، ولكن تم تخصيص القليل من التفكير، إن جاز أن أقول ذلك. بعد الحرب، عندما ذهب الموت وابتعد، تضاءلت الآمال. في ذلك الوقت تحديدا، هدّد الحزن بالاستيلاء على الناس… أذكر أشخاصا جرّهم الحزن بهمس إلى السبات الذي لم ينهضوا منه بعد ذلك”.