إنّ التهديدات الأخيرة التي وُجّهت إلى حكومة الوفاق الوطني من قبل حكومة حماس هي دليل آخر، في سلسلة لا تنتهي من الأدلة، على هشاشة المصالحة الفلسطينية.
إنّ اقتحام موظفي نقابة الموظفين لمقر الحكومة احتجاجا على عدم دفع رواتبهم يُثبت هو أيضًا أنّ هذا الإطار المشترك لن يؤدي إلى أي خبر جيد للشعب الفلسطيني، ولا لسكان غزة الذين لا يزالوا يرتقبون بناء القطاع من جديد والعودة إلى منازلهم المدمرة.
تغيّر العالم العربي بشكل غير مسبوق منذ سيطرة حماس على القطاع، ولكن الصدع الداخلي الفلسطيني أثبت بأنّه أقوى من كل ثورة في العالم العربي
بينما يلقي مسؤولو حماس اللوم على الحكومة لعجزها الذي لا يسمح بإعادة إعمار غزة، تلقي فتح اللوم على حماس. رغم التقدم البادي في إقامة حكومة في شهر حزيران، فإنّ فقدان الثقة بين الجانبَين يعكس الديناميكية الحقيقية بينهما، كما تتجلى منذ سيطرة حماس على القطاع في حزيران عام 2007، بل ومنذ انتصار حماس في انتخابات المجلس التشريعي في كانون الثاني عام 2006.
إن عشرات الاجتماعات في القاهرة، الدوحة، الرياض بل وفي مكة لم تساعد. تغيّر العالم العربي بشكل غير مسبوق منذ سيطرة حماس على القطاع، ولكن الصدع الداخلي الفلسطيني أثبت بأنّه أقوى من كل ثورة في العالم العربي – تقوم الحكومات وتسقط، وهو مستمر في استقطاب المجتمع الفلسطيني.
فما هي في الواقع الأسباب الرئيسية لكون الانفصال الفلسطيني مستمرّا دون نهاية؟
- الضغوط المصرية تلمح إلى فتح بعدم التنازل
فشلت مصر في عهد مبارك في الوساطة الفعالة بين الجانبَين، واعتُبرت مصر في عهد الإخوان المسلمين مرفوضة في نظر فتح ولا تحظى مصر في عهد السيسي بكامل ثقة الحمساويين.
إن إقامة الشريط الأمني في منطقة رفح والإجراءات الحازمة التي يقوم بها عبد الفتّاح السيسي في سيناء تشير لمسؤولي فتح بأنّ ترك الوضع كما هو سيزيد فقط من إضعاف حماس، بشكل يخدم المصالح الفتحاوية. وتفتح مصر، وفقا لمصالحها، معبر رفح في أحيان نادرة، وهكذا تزيد الضغوط على السكان الفلسطينيين، والذين يضغطون بدورهم على حماس.
تشجّع الإجراءات المصرية الصلبة التي تتم تحت شعار الأمن الوطني المصري رجال فتح في إبقاء حماس في موقف الحكم بحيث تمتصّ غالبية الضغوط الشعبية الفلسطينية، حتى توافق حماس على كل شرط يتم إملاؤه عليها من الداخل والخارج.
- ليس لدى حماس حافز لتقديم تنازلات
لقد تم إضعاف المحور المتطرّف برئاسة قطر في أعقاب الضغوط المصرية والسعودية، ممّا انعكس على سبيل المثال في أنباء عن إمكانية انتقال خالد مشعل من قطر إلى تركيا. ولكن لا تزال حماس لا ترى أي سبب للإهمال أو التقليل من شأن طريق المقاومة المسلّحة، بشكل لا يسمح لمسؤولي فتح بأي تعاوُن حقيقي.
في مسيرة الانطلاقة التي عقدتها حركة حماس شكر أبو عبيدة إيران التي قدّمت كل الدعم الممكن لحماس في حربها في الصيف الأخير
في مسيرة الانطلاقة التي عقدتها حركة حماس في شهر كانون الأول الماضي شكر الناطق باسم كتائب عزّ الدين القسّام، أبو عبيدة، الجمهورية الإسلامية في إيران والتي قدّمت كل الدعم الممكن لحماس في حربها في الصيف الأخير. ما دام الدعم الإيراني لا يزال قويا – وذلك رغم الاضطرابات التي مرّت بها العلاقة بين إيران وحماس في أعقاب الحرب الأهلية السورية – فليس لدى حماس أي سبب للبحث عن تسوية حقيقية مع فتح، لا يزال موقفها صلبا، واحتمال المصالحة الحقيقية لا يزال صغيرا.
- الاستقطاب الأيديولوجي
في الأساس، فإنّ حماس وفتح، رغم قلقهما على القضية الفلسطينية، تمثّلان وجهتي نظر متطرّفتين وعكسيّتين
في الأساس، فإنّ حماس وفتح، رغم قلقهما على القضية الفلسطينية، تمثّلان وجهتي نظر متطرّفتين وعكسيّتين، حيث تفصل بينهما هوّة عميقة. وكما لا يتوقع أحد بأن يدعو عبد الفتّاح السيسي الإخوان المسلمين للمشاركة في حكومته، فمن الصعب أيضًا أن نصدّق كيف يمكن لفتح وحماس الحكم على أساس أرضية مشتركة لا تسلّط الضوء على الفجوات بينهما.
وسواء أكّدت حماس على الأمر أم قامت بإخفائه، فقد كانت ولا تزال حركة إسلامية متطرّفة، مخلصة لتحكيم الشريعة كدين للدولة بحسب نموذج الإخوان المسلمين. ليس لدى الفتحاويين أية رغبة في قبول قواعد اللعبة التي تسعى حماس لفرضها.
- مصالح متناقضة
يرغب كل واحد من الجانبين تسجيل إنجازات استراتيجية على حساب الآخر، دون أن يدفع أي ثمن. قال المتحدث باسم حركة فتح أحمد عساف، إن الهجوم والتهم الباطلة والتهديدات التي يكيلها قادة حماس إلى حكومة الوفاق الوطني، هي دليل إضافي على أن هذه العصابة المتحكمة بقطاع غزة لا ترى سوى مصالحها الذاتية الضيقة وأن ما يهمها من هذا الوطن سوى تأمين رواتب إلى مليشاتها المسلحة والموظفين المحسوبين عليها.
فتح غير مستعدة تحت أي ظرف لتوفير تمويل للموظفين الذين تم تعيينهم من قبل حماس، وهي تطلب أن توضع في يد الحكومة كل السيطرة المدنية والأمنية على القطاع. تريد حماس قبل كل شيء دفع رواتب الموظفين، وبعد ذلك فقط مناقشة الخطوات المستقبلية.
وهذا الذي جعل عسّاف يقول إنّ كل ما تريده حماس من الحكومة، هو أن تتحوّل هذه الأخيرة إلى صراف آليّ، مهمتها الأولى والأخيرة في قطاع غزة هو صرف رواتب موظفي حماس.
هذا النوع من التصريحات يرفع فقط من درجة الغضب لدى حماس. قادة حماس من جهتهم غير مستعدين تحت أي ظرف للتنازل ولو عن رصاصة واحدة من مخازن عناصر عزّ الدين القسّام أو الشرطة الفلسطينية لصالح عناصر الأمن الوطني التابعين لعباس، الذين يعملون اليوم على إحباط نشاطات عناصر حماس في الضفة الغربية. بعد سنوات من السيادة الحصرية على قطاع غزة، من الصعب على الحمساويين أن يفكروا بتقليل مكانتهم إلى درجة شريك مساو مع فتح وسائر التنظيمات في القيادة الفلسطينية.
- فقدان الثقة بين الجانبَين
رغم العلاقة التي تبدو حميمية جدا والتي نشأت بين قادة وفدي المصالحة من فتح وحماس، عزام الأحمد وموسى أبو مرزوق، يبدو أنّ كلا الرجلين من فتح وحماس مختلفان مع بعضهما البعض. لا يسمح تدنّي مستوى الثقة بين الجانبَين بالتعاون في أي مستوى تقريبا.
إنّ تاريخ العلاقات بين الحركتين مزدحم بأعمال القتل المتبادلة، الاعتقالات، التفجيرات الغامضة والتعذيبات. حتى على خلفية الحرب في غزة، التي كان من المفترض أن توحّد صفوف الشعب الفلسطيني، اتهم مسؤولو فتح حماس بسرقة المعدّات الإنسانية التي كانت مخصّصة لسكان القطاع. من جهة أخرى، لم تتوقف حماس أبدا عن اتهام فتح بالتآمر ضدّ الشعب الفلسطيني مع إسرائيل والولايات المتحدة.
ومع مستوى ثقة متدنّ إلى هذه الدرجة، فإنّ احتمال إعادة إعمار غزة يقلّ مع مرور الوقت. سيضطرّ عشرات الآلاف من المشرّدين في أعقاب الصيف الماضي إلى الاستمرار في انتظار الإنقاذ.