هناك من يعتبر الحركة الصهيونية وليدة القومية الأوروبية الحديثة، بل كانت الغالبية المهيمنة من النشطاء الذين قادوا إقامة دولة إسرائيل من العلمانيين تماما وتنصّلوا من الارتباط بالدين العملي تماما. ولكن من أجل فهم المستوطِنين، يجب العودة إلى آيات قديمة في الكتاب المقدس، كانت قد أقنعتهم أنّ إقامة دولة إسرائيل أصلا هي وعد لإبراهيم من الله وأنّ هدفها هو تحقيق الخلاص.
الوعد
من ناحية الفكرة، فإنّ حركة الاستيطان اليهودية ليست نتيجة لاحتلال الأراضي في حرب عام 67، وأيضا ليست نتيجة قيام دولة إسرائيل عام 48. لقد دفعها شوق الشعب اليهودي للعودة إلى “أرض الميعاد” – وهي البلاد التي يسميها اليهود “أرض إسرائيل” في قلب الشرق الأوسط. من أجل فهمها يجب العودة إلى سنوات مضت، إلى الوعد الذي منحه الله، وفقا للمكتوب في الكتاب المقدس، لآباء الشعب اليهودي الثلاثة: إبراهيم، إسحاق ويعقوب، والتي بحسبها وُعِد ذرية هؤلاء الآباء، بنو إسرائيل، بهذه البلاد، ووُصفت مساحتها على أنها من نهر مصر غربا حتى نهر الفرات في الشمال الشرقي.
ولكن وفقا للتقاليد اليهودية، بعد أن لم ينفّذ شعب إسرائيل تعليمات الإله كما هو مطلوب منه، فقد حدث شرخ بينه وبين ربّه، والذي دمّر الهيكل الذي بُني تكريما له ونفى الشعب من أرضه في القرن السادس قبل الميلاد، ومنذ ذلك الحين أصبح شعب إسرائيل يرتقب عودته إلى الأرض التي وُعد بها.
وفقا للأدبيات اليهودية الصوفية التي كُتبت بعد الخروج إلى الشتات، فإنّ الشرخ بين بني إسرائيل والله سوف يلتئم. وعندما يلتئم سيأتي الله بالخلاص للعالم كله. يعتقد أحد التفسيرات أنّه لا يجب الانتظار بشكل غير فعال إلى أنّ يلتئم الشرخ تلقائيا، وإنما يجب العمل على التئامه وبذلك تسريع مجيء الخلاص للعالم. إذا كان الأمر كذلك، فكيف سيلتئم الشرخ الذي نشأ عندما نُفي شعب إسرائيل من الأرض التي وعد الله بها إبراهيم؟ وفقا لنفس التفسير، من خلال العودة إلى البلاد وتحقيق الوعد ‘سأعطي لك هذه البلاد’. إنّ الاعتقاد أنّ مهمة شعب إسرائيل هي تحقيق الخلاص للعالم، وأنّ عودة اليهود إلى أرض الميعاد ستسرّع من مجيئه، كان وقودا وحرّك اليهود المتديّنين أيضا للانضمام إلى الحركة الصهيونية العلمانية.
كان لهذا التيار في الصهيونية زعيم ديني وروحي واضح، وهو الحاخام أبراهام يتسحاق هكوهين كوك، ويلقب بالحاخام كوك (الأب). عاش حتى سنّ الأربعين في أوروبا الشرقية، ولكن في أعقاب دعوة يهود يافا إليه ليكون حاخامهم، هاجر إلى فلسطين عام 1904، وهكذا بدأت -قصته مع الصهيونية. “نحن نعترف ونؤمن أنّ خلاص إسرائيل سيأتي من خلال الخلاص الواضح، الذي قطعناه على أنفسنا والذي أعطانا الله إياه لإحراز التقدم من خلال: شراء البلاد، تخليصها، العمل فيها وبناؤها، احتلالها بفتوحات روحية وعملية”.
أراد الحاخام كوك, أمام شخصيات التيار المركزي في الصهيونية، الذين ادعوا أنّه “ليست هناك علاقة بين الصهيونية والدين”، تأسيس تيار بديل يعمل وفقا للافتراض المعكوس – أنّ دولة إسرائيل متعلقة بالدين تعلقا ثابتا. “الحركة القومية المرتبطة ببناء الأمة في أرض إسرائيل هي حركة إلهية ظاهرة”، كما كتب.
في العام 1947 وافقت الأمم المتحدة على قرار التقسيم، والتي بحسبها ستُقسم أرض إسرائيل – فلسطين إلى دولتين: دولة يهودية ودولة عربية. رفضت القيادة العربية هذا الاقتراح، بينما قبلته القيادة اليهودية، ولكن بصعوبة كبيرة. من جهة، كان ذلك اعترافا من الأمم المتحدة بحقّ الشعب العبري بالاستقلال السياسي، ولكن من جهة أخرى، تضمّن هذا الاعتراف طلبا مؤلما – وهو التنازل عن نحو نصف مساحة البلاد، وقد عارض قسم كبير من اليهود ذلك. “الشعب العبري لم ولن يعترف أبدا بتقطيع أوصال وطنه” كما أعلنت بعض المنظمات الصهيونية.
التحقيق
بعد قرار الأمم المتحدة تم إعلان قيام دولة إسرائيل وفي الوقت نفسه اندلعت حرب عام 48. اعتبر التيار الديني في الصهيونية، والمسمى أيضًا “الصهيونية الدينية”، إقامة دولة إسرائيل عام 1948 بمثابة معجزة إلهية – كبداية عملية الخلاص وتحقيق الوعد التوراتي. ولكن رافق الفرح الأكبر بتأسيس كيان قومي للشعب اليهودي في أرض الميعاد ألم بسبب تقسيم البلاد.
“في تلك الليلة الشهيرة التي جاء فيها القرار الإيجابي لقادة الأمم المتحدة… عندما خرج كل الشعب للاحتفال بمشاعر فرحه، لم أستطع الخروج والانضمام للفرح… أين الخليل الخاصة بنا – هل ننسى ذلك؟! وأين نابلس الخاصة بنا – هل ننسى ذلك؟! وأين أريحا الخاصة بنا- هل ننسى ذلك؟!” لم يقل كلمات الأسى هذه أي شخص، وإنما قالها ابن الحاخام كوك، الذي اعتُبر بعد وفاة والده زعيما روحيا رائدا في الصهيونية الدينية. والفرصة التي قالها فيها هي أكثر إثارة للاهتمام – قبل ثلاثة أسابيع فقط من اندلاع حرب 67 فجأة ومن دون استعداد مسبق، وعندما فجأة سيطرت إسرائيل على أراض كبيرة لم تكن مشمولة في اتفاق التقسيم الذي وقعت عليه عام 1947: في الضفة الغربية، في غزة، في سيناء والجولان. ورغم أن هذه المناطق لم تكن جزءا من مخطط الأمم المتحدة للدولة اليهودية، فقد كانت تلك الأراضي جزءا من أرض الميعاد وفقا للكتاب المقدس.
بالنسبة للصهيونية الدينية، كانت تلك هي اللحظة التي استطاع أبناؤها أخيرا أن يفرحوا فيها بحرارة لقيام دولة إسرائيل. اعتُبرت تلك الكلمات المتحمسة حول الخليل وأريحا ونابلس والتي قيلت قبل ثلاثة أسابيع من ذلك فقط، بالنسبة لأبناء الصهيونية الدينية نبوءة تحققت، وبتأثيرها كانوا عازمين في رأيهم على إقامة مستوطنات يهودية على أكبر مساحة ممكنة من أرض إسرائيل – بأيّ ثمن. لقد اعتبروا ذلك التحقيق الأسمى للصهيونية، ولكن زعماء الدولة كانوا أكثر تردّدا بخصوص استمرار السيطرة الإسرائيلية على تلك الأراضي لعدة أسباب: انطلاقا من الخوف من الرأي العام العالمي، الاعتبارات القضائية، والرغبة في إبقاء الباب مفتوحا لإعادتها في مفاوضات مستقبلية. عند هذه النقطة انفجر التناقض الاساسي بين مبادئ الصهيونية الدينية وبين الحكم العلماني لدولة إسرائيل، والذي أدى إلى الواقع الإسرائيلي المعقّد في أيامنا.