شكَّل الهجوم المُدمج، الذي شنته خلية إسلامية ضد الصحيفة الساخرة “شارلي ايبدو” وضد المتجر اليهودي، في قلب باريس والذي راح ضحيته 17 شخصًا، واحدًا من سيناريوهات العنف التي تُقلق راحة أجهزة الأمن المُختلفة في أوروبا في السنوات الأخيرة.
خيم خطر حدوث موجة عنف في سماء القارة منذ الهجوم على مدينة مومباي، والذي وقع في أواخر عام 2008 على يد خلية إرهابية إسلامية وحصد أرواح 166 شخصًا. تم تسجيل عدد من التهديدات بتنفيذ عمليات إرهابية في ألمانيا، فرنسا، وفي بريطانيا. ازدادت وتيرة التهديدات بشن عمليات إرهابية في أوروبا في العام الماضي، على خلفية عودة مئات المُسلمين والمتأسلمين في أوروبا من سوريا إلى مسقط رأسهم في القارة، بينما هم مفعمون برغبة الاستمرار بنشاطهم وصراعهم مُستلهمين ذلك من الدعوة للجهاد. حظي المتطوعون، خلال فترة مشاركتهم بالحرب الأهلية في سوريا، على التدريب ونالوا خبرة قتالية وتشبعوا بالعقائد الدينية المُتطرفة، التي تعتبر الغرب عدوًا للإسلام، ومن الواجب محاربته. وضعت هذه الظاهرة أمام الجهات الأمنية في أوروبا إشارة تحذيرية من هذا الخطر الفعلي وهو استيراد الإرهابيين من الشرق الأوسط إلى مدن القارة.
إن قًتل أعضاء جريدة “شارلي ايبدو” – الكريكاتيرية، الذين، حسب رأي المهاجمين، أهانوا شخص النبي محمد – ينافي القانون الأساس في الديمقراطية الغربية – حرية التعبير. ومن ثم تم الهجوم على هدف يهودي واضح حيث أن المهاجمين وضعوا أنفسهم في دور المدعي، القاضي والجلاد. ليس من المهم ما هي هوية التنظيم الجهادي الذي ينتمي إليه المهاجمون – قاعدة بلاد الحجاز، أو الدولة الإسلامية (داعش) – حيث أن المهاجمين مثّلوا وجهة نظر وأيديولوجية مُتطرفة، والتي تمتاز بها هذه التنظيمات.
تم، في إطار موجة الهجمات الإسلامية الإرهابية الحالية التي تعصف بدول غرب أوروبا، تنفيذ العديد من الهجمات الإرهابية على يد “ذئاب وحيدة” في مدن مُختلفة في فرنسا، وقبل نصف عام – في بروكسل. يُطرح سؤال مركزي، على هذه الخلفية، وهو: هل هذا غيض أم فيض لإرهاب من شأنه أن يتعاظم أكثر أم مجرد حادثة عابرة حيث أنه على الرغم من الصدمة التي خلّفتها تلك الحادثة في نفوس الناس في فرنسا والدول الأوروبية إلا أن ذلك الأمر لن يؤدي إلى تغيير السياسة الُمتبعة ضد الإرهاب الإسلامي لأنه سيتلاشى مع الوقت ذلك الأثر الذي سببته تلك الهجمات.
تضع تلك العمليات، التي نفذها أفراد هم “ذئاب وحيدة”، والذين يتماهون مع الجهاد العالمي، تحديًا أمنيًا أمام أجهزة المخابرات والأجهزة التنفيذية في أوروبا التي تحاول القضاء عليهم قبل أن يتسببوا بمجازر في أوروبا. من شأن فشل عملية وقف انتشار موجة الإرهاب الإسلامي في الدول الأوروبية أن يؤدي إلى ردة فعل عنيفة من قبل جماعات اليمين المُتطرف ضد المُسلمين. من المتوقع أن تستغل تلك الجهات مسألة الخوف من الإسلام المُتطرف لتبرير العمليات الإرهابية التي قد يقومون بها بدافع كراهية الأجانب، الخوف من الإسلام ومعاداة السامية. ستُعتبر العمليات التي ترتكبها جهات إسلامية مُتطرفة تبريرًا لهم للقيام بعملية عنيفة، والتي ستؤدي إلى موجة عنف في الدول الأوروبية، التي سيكون من الصعب على قوات الأمن إيقافها، وسيفاقم ذلك الأمر التحدي المُعقد الذي تواجهه الجهات السياسية الفاعلة في دول أوروبا، نتيجة التوتر المتواصل بين الكُتل المُختلفة.
سُجلت لصالح أجهزة المخابرات الأوروبية، خلال السنوات الأخيرة ولمدة عقد من الزمان تقريبًا، العديد من الإنجازات المتعلقة بإحباط عمليات استعراضية كان يخطط لها أن تكون مؤثرة جدًا والتي كانت تُعدها منظمة القاعدة وأعوانها. أثبتت تلك العمليات أنه يُمكن مواجهة محاولات الجهات الإرهابية للمس بالديموقراطية الغربية من خلال تلك العمليات الفعالة. إلا أنه، تتجلى صورة ما وهي أنه كانت في خلفية تلك الهجمات الأخيرة في باريس فشل مخابراتي. المعلومات المُسبقة الخاصة بالعمليات، التي تم توصيلها لأجهزة الأمن الفرنسية، لم تحظ بالاهتمام المطلوب. إلا أنه يجب الأخذ بالحسبان أنه ليس بإمكان أجهزة الأمن في فرنسا وفي دول الغرب كافة منع تنفيذ عمليات إرهابية بشكل تام.
فضلًا عن ذلك، في مدن كثيرة في القارة هناك تردد وخوف دائم من اتخاذ إجراءات قاسية ضد عزل الأقليات، وعمومًا ضد ظاهرة العنف والإرهاب من جهة جماعات الأقليات المقاتلة. ربما كان هذا الميل يعكس خوفًا ما، لأن الصدام المُباشر مع هذه الجماعات سيتطور إلى فوضى واسعة، كتلك التي حدثت عام 2005 في باريس، عندما تحولت الضواحي النائية في باريس إلى ميادين حرب بين أبناء الأقليات، وتحديدًا أبناء شمال أفريقيا، وبين قوات الأمن الفرنسية. أيضًا هناك خوف من إطلاق نظام مُركب، يحمل أبعاد قضائية وبوليسية وثقافية ضد الأقليات، الأمر الذي سيبدو بالنسبة للكثيرين وتحديدًا بالنسبة لأبناء الأقليات على أنه مس بحرية الفرد وحقوقه. تسود في أوروبا، أساسًا، موجة كراهية للأجانب. حازت الأحزاب، التي تنادي بشعارات كهذه، في العام الماضي، على نجاح كبير في الانتخابات البرلمانية الأوروبية. علينا أن نتذكر، من جهة أُخرى، أن الأقليات في أوروبا، وبضمنها اللاجئون الذين أتوا في السنوات الأخيرة من مناطق تعصف بها أزمات اقتصادية وحروب في الشرق الأوسط، لا يشكّلون عالة على خدمات الرفاه فحسب، بل يُشكلون قوة عاملة رخيصة أيضًا. لذا فإن وجودهم في القارة، التي تُعتبر قارة عجوز، يُعتبر قيمة اقتصادية إيجابية.
يمكن اعتبار أن دولاً كثيرة في أوروبا تُفضل أن تبادر مؤسسات الاتحاد الأوروبي للقيام بخطوات قضائية وغيرها ضد أمور مُتعلقة بمسألة الهجرة، وخاصة الهجرة غير القانونية، وأن تتخذ إجراءات فعلية بهدف تقليص العبء الاقتصادي، المتعلق بالمهاجرين والأقليات. رغم أن جزءًا كبيرًا من إشكاليات الهجرة ما زال يقع ضمن مسؤولية الدولة لم ينتقل بعد إلى مسؤولية الاتحاد الأوروبي ومؤسساته. هاجمت المستشارة الألمانية، ميركل، الحركة التي تعارض الأقليات في بلادها وهذا بسبب الحساسية الخاصة المُتعلقة بألمانيا تحديدًا. ولا شك أن ألمانيا تُفضل تحركًا في نطاق الاتحاد الأوروبي وذلك للسبب ذاته.
ولكن السؤال الذي يجب أن يُطرح هو، ما هو الإجراء، وضد من؟ الإجراءات المُتعلقة بمحاربة الإرهاب قائمة في الاتحاد الأوروبي منذ سنوات. من بينها هناك قرار المجلس الأوروبي من تاريخ 28 تشرين الثاني عام 2008، الذي عرّف ما هي النشاطات الإرهابية (وتم تعديل قرار سابق تم سنه في 2002)، أو الخطة الأوروبية من عام 2005 لمحاربة التطرف وتجنيد الإرهابيين. كذلك تم داخل المؤسَّسات الأوروبية في بروكسيل، تشكيل مجموعات لمواجهة الإرهاب. ماذا إذًا يمكن أن نضيف على ذلك، ما عدا إعلان النوايا؟ هل، في الاتحاد الأوروبي، يمكن أن يتخذوا إجراءات لصالح تقليص الهجرة، بما في ذلك الهجرة القانونية، وهل ستقرر السلطات في دول أوروبا المختلفة أن تتعامل بيد من حديد ضد أبناء الأقليات، الذين سيطروا على مناطق في المدن الرئيسية والتي يُطبقون فيها القانون بأيديهم؟
سؤال مركزي آخر يتعلق بهذه الإمكانية، لأن العمليات القاسية داخل الأراضي الأوروبية ستؤدي إلى تغييرات فيما يتعلق بسياسة فرنسا ودول غربية مركزية أخرى، بما يتعلق بشكل وحجم التدخل في الحرب ضد داعش والقاعدة في سوريا والعراق. على الرغم من عبارات الاستنكار التي يُطلقها المسؤولون في فرنسا، ألمانيا، بريطانيا والولايات المتحدة، في هذه المرحلة، على إثر العمليات التي وقعت في باريس، من الصعب أن نتوقع أن تلك البلاغة الخطابية ستؤدي إلى إدخال جيش مشاة في العراق أو تغيير في سياسة التحالف الذي يحارب ضد داعش في سوريا. هناك تحدٍ آخر يتشارك فيه قادة الدول وممثلي الجمهور في الدول الغربية وأيضًا شركاؤهم في دول العالم الإسلامي وهو إدارة برنامج أيديولوجي قيمي مضاد من أجل تقويض وهدم الفكر الذي تتبناه منظمات الجهاد العالمي. يُفترض أن تكون هناك أهمية كُبرى، بالنسبة لرؤساء الطوائف الإسلامية ورجال الدين المسلمين في الغرب، بقيادة نضال مُمنهج، علني ومتواصل الذي من شأنه تقويض التفسير العنيف للدين الإسلامي والمناداة بمقاطعة أولئك الذين يحملون لواء الجهاد. فقط عملية نزع ثقة جارفة فيما يتعلق بالمسوغات الدينية والتي تحفز الشبان، من حول العالم، على الانضمام ودعم العمليات الإرهابية الإسلامية هو ما قد يساعد على تقليص عدد المتطوعين للقتال في صفوف منظمات الجهاد العالمية.
الصدمة التي تلقتها فرنسا نتيجة العمليات الإرهابية التي تم تنفيذها في ثلاثة أماكن مختلفة، في باريس وضواحيها، في الأسبوع الأول من شهر كانون الثاني عام 2015، ستتلاشى مع الوقت ومعها أيضًا ستتلاشى الدافعية المُتعلقة بعلاج هذه الظاهرة الخطيرة التي تهدد الديموقراطيات الغربية، التي أساسها في ميادين القتال في سوريا والعراق. سيتأجل خوض هذا التحدي إلى موعد لا يتبقى فيه أمام قادة الدول الغربية أي مناص غير مواجهته مباشرة بشكل واسع وشامل وربما عنيف جدًا. بالإمكان أن نُقدر أن سلسلة أحداث استثنائية فقط، بما فيها عمليات استعراضية كبيرة تحصد أرواح كثيرة، يمكنها أن توضح حجم الخطر الذي يتمثل بعدم تفعيل دور عسكري أكبر ضد ذلك الخطر، الأمر الذي يضع تنظيم الدولة الإسلامية بمواجهة الدول الغربية. كانت العملية الإرهابية التي نفذتها القاعدة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001 حدثًا هز المعمورة ودفع نحو عملية عسكرية واسعة وعنيفة ضد التنظيم. هكذا سيحدث، على ما يبدو، أيضًا في الحرب ضد داعش، القاعدة وأعوانهما في الغرب إلا إن تم اتخاذ إجراءات عسكرية مُسبقًا، إجراءات قانونية، قضائية وقيمية ضد مثل هذه التنظيمات.
نُشرت هذه المقالة لأول مرة في موقع مركز الأبحاث القومي INSS