مرّ 22 عامًا على وفاة مناحيم بيجن، الرجل الذي وقّع باسم دولة إسرائيل على أوّل معاهدة سلام لها مع دولة عربية. كان بيجن تحديدًا، اليمينيّ الصريح – أوّل رئيس حكومة يمينيّ في إسرائيل – أوّل مَن تنازَل عن أراضٍ احتلتها إسرائيل مقابل معاهدة سلام، إذ وقّع عام 1978 على اتّفاق كامب ديفيد، الذي اشتمل على انسحاب إسرائيلي تامّ من سيناء.
اليوم، يبدو أنّ بنيامين نتنياهو، الذي يترأس الحزب الذي أسسه بيجن، يسعى ليكون أكثر شبهًا ببيجن اليمينيّ والقوميّ، لا ببيجن المتنازِل والتسووي – رغم أنّ التاريخ يمكن أن يبرهن عكس ذلك. يُطرَح السؤال: هل بيجن هو الذي قاد إلى معاهدة السلام التاريخية مع مصر، أم إنّ الظروف هي التي دفعته إلى هناك؟
يتّفق المؤرّخون على كون مناحيم بيجن رجلًا عانى من الكآبة. ومن المعروف اليوم أنه تناول في فتراتٍ معيّنة من حياته أدوية لمعالجة الكآبة. ادّعى العالم النفسي عوفر غروزبرد، الذي وضع سيرة حياة لبيجن ركّزت على نفسيّة القائد، في كتابه أنّ كلّ الحياة العامّة لبيجن تميّزت بحلقات تراوحت بين الهبوط والانعزال وبين لحظات النصر والكبرياء.
وفق غروزبرد، رافقت الكآبة بيجن منذ مقتل والدَيه من قِبل النازيين في أربعينات القرن العشرين. وفي باقي حياته، كان معتادًا أن يستجيب للهزائم والأزمات بالغرق في الكآبة. فهكذا كان ردّ فعله عند تفكيك تنظيم “الإيتسل” السري الذي ترأسه عام 1948، عند هزائمه في الانتخابات للكنيست، حين مرّت المحادثات مع بأزمات، وحينَ تظاهر معارِضون خارج بيته، ودعوه إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة.
مبادرة السادات، مُصادَقة شارون
كان أنور السادات، لا بيجن، المبادِر الفعليّ إلى عملية السلام، حين قرّر بشكل مفاجئ زيارة القدس في تشرين الثاني 1977. حتّى تلك اللحظة، كان بيجن يفضّل التمسّك بمواقفه حول حقّ إسرائيل في الاحتفاظ بكلّ الأراضي التي احتلّتها في حرب الأيام الستة عام 1967. “مَن لا يعترف بحقنا في الوطن كله لا يعترف أيضًا بحقّنا في قسم من أراضيه”، قال بيجن حول حقّ السيطرة على جميع أقسام “البلاد”.
من الظلم القول إنّ شخصية بيجن وموقفه المتصلب لم يلعبا دورًا هامًّا في التوصُّل إلى اتّفاق سلام. فالسادات، الذي أدرك كون بيجن زعيم اليمين في إسرائيل دون منازِع، أدرك أنه هو – وهو وحده – مَن يستطيع إقناع الإسرائيليين بالانسحاب من أراضٍ مقابل اتّفاق سلام حقيقيّ.
لكن دون الوزراء في حكومة بيجن: موشيه ديان وزير الخارجية، عيزر وايزمان وزير الدفاع، وأريئيل شارون وزير الزراعة، كان هناك شكّ في أن يمتلك بيجن الشجاعة التاريخية لاتّخاذ قرار حاسم بالانسحاب التامّ من شبه جزيرة سيناء. كان ديان ووايزمان مَن أدارا معظم المفاوضات مع المصريين. لم يشعر السادات نفسه بودّ كثير تجاه بيجن، الذي كان يبدو له محاميًا شديد التدقيق من أصول أوروبية شرقيّة. مقابل بيجن، كان ديان ووايزمان عسكريَّين عريقَين، ما أثار احترام السادات وإعجابه.
لم تُفارق الكآبة بيجن في تلك الفترة أيضًا. يروي عيزر وايزمان، الذي كان وزير الدفاع في حكومة بيجن الأولى، حول الطريقة التي أدار فيها بيجن المفاوضات مع مصر: “أتى إلى النقاشات بمزاج سيّء. أظهر لامبالاة بما يجري. لم يتدخّل في الجدالات، ولَم يفرض النظام على المُتحاوِرين… كانت عيناه مركّزتَين على مكانٍ ما غير معروف. سادت الشائعات أنّ الأدوية تغلّبت عليه. ثمّ سُرّبت شائعات أكثر حول أنّ بيجن في مزاج سيء جدًّا، وأنه يمكن أن يستقيل”. وفيما سيطرت الكآبة والتشاؤم على بيجن، تحمّل ديان ووايزمان عبء التفاوُض.
عام 1978، قبل التوقيع على اتّفاق كامب ديفيد الذي حدّد مبدئيًّا انسحاب إسرائيل من سيناء، استصعب بيجن إخلاء المستوطَنات الإسرائيلية في منطقة جنوب وغرب رفح. فقط بعد محادثة هاتفية مع وزير الزراعة أريئيل شارون، الذي اعتُبر حينذاك “أبا المستوطنات”، وافق رئيس الحكومة الإسرائيلية، ووقّع على الوثيقة. كان بيجن بحاجة لـ”مصادقة” شارون للموافقة على إخلاء المستوطنات من سيناء.
الغياب النهائيّ
أدّى اتّفاق السلام مع مصر إلى تغيير تاريخيّ، لكنّ كآبة بيجن لم تختفِ.أدّى الدمج بين وفاة زوجته عليزة وتورُّط إسرائيل في حرب لبنان الأولى عام 1982، عملية انجرّ إليها بيجن وراء شارون المخادِع الذي كان حينذاك وزير دفاعه، إلى دفع رئيس الحكومة ثمنًا نفسيًّا باهظًا.
التقى رئيس الدولة حينذاك، إسحاق نافون، ببيجن وأصيب بصدمة. “أصبتُ بالذعر حقًّا”، روى نافون انطباعه عن بيجن. وأضاف: “الرجل عاجز عن الأداء، إنه مشوَّش… رئيس الحكومة لا يفعل شيئًا، الوزراء صامتون، والدولة بين يدَيه”. في نهاية المطاف، أدرك بيجن أنه لا يستطيع مواصلة تحمّل مسؤولية رئاسة الحكومة ما دام يعاني من الكآبة. “لا يمكنني بعد”، قال لوزراء حكومته حين علّل لهم استقالتَه عام 1983، ورفض التوسُّع في ذلك.
قضى بيجن السنوات التسع التي مرّت منذ استقالته حتّى وفاته عام 1992 معزولًا في منزله، ومُقلًّا من الحديث مع الناس. لم يفارِق منزله سوى لزيارة قبر زوجته الراحلة، أو لإجراء فحوص طبيّة. اشتاق الشعب إلى الزعيم ذي الكاريزما، وندب غيابَه، لكنّ بيجن كان مصمّمًا على عدم العودة. حتّى اليوم، يذكر الإسرائيليون بيجن كزعيمٍ شُجاع وقويّ، أحرز معاهدة سلام مع مصر، مفضِّلين عدم تذكّر الرجل الذي غرق في سوداوية مفرطة، وهبط دفعة واحدة عن منصة التاريخ.