حتى عام 1982، لم يجرِ أي صحافي إسرائيلي مقابلة مع ياسر عرفات، الذي كان يعتبر حينذاك أحد أكبر أعداء إسرائيل. كانت تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية، وقد حظر القانون الإسرائيلي عقد لقاءات مع الجهات المعادية.
ولكن حرب لبنان الأولى (التي بدأت كعملية للقضاء على أوكار الإرهابيين الفلسطينيين في جنوب لبنان)، منحت فرصة ذهبية للصحافيين الإسرائيليين للوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من القيادة الفلسطينية في تلك الفترة.
“كانت صورة عرفات أسوأ صورة يمكن توقعها. صورة وحش. ولكن وقف أمامي إنسان، من لحم ودم، مبتسما، واقترب إلي بحرارة، وعانقني بدفء، وكان يبدو طيبا. فدُهِشتُ”.
نجحت عنات سرغوستي، التي كانت حينها مصوّرة صحفية شابة، وأصبحت اليوم واحدة من كبار الصحافيين في إسرائيل، في الالتقاء مباشرة بالزعيم ياسر عرفات. في مقابلة خاصة مع طاقم هيئة تحرير “المصدر” في ذكرى 7 سنوات على وفاة الرئيس الفلسطيني الأبدي، تتحدث عنات عن تلك المقابلة الاستثنائية.
هل يمكن أن تخبرينا عن الاستعدادات للقاء – لماذا قررتم إجراءه؟ كيف وصلتم إلى عرفات؟ ماذا كانت توقّعاتكِ؟
“أجريَ اللقاء في تموز 1982، خلال حرب لبنان الأولى. كان الجيش الإسرائيلي قد سَيْطر حينها على بيروت الشرقية وفرض حصارا على بيروت الغربية، حيث كان مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. سافر الصحافيون الإسرائيليون إلى بيروت من أجل نقل أحداث الحرب. ووصلت أنا أيضا مع طاقم الصحيفة الأسبوعية “هعولام هازيه” (هذا العالم) إلى بيروت”.
في تلك الفترة انشغلت معظم العناوين بطابع بيروت الأوروبي. ففوجئ الصحافيون الإسرائيليون، الذين توقّعوا مشاهدة مدينة عربية تدور فيها رحى حرب، عندما شاهدوا النوادي، المقاهي والمطاعم، الخمور، وأجواء الحرية في شوارعها. لكن سرغوستي طلبت تحديدا أن تشاهد المناطق التي يعيش فيها الفلسطينيون، الذين أقاموا في الجزء الأقل نجاحا من المدينة، الجزء الغربي.
“بقينا في بيروت عدة أيام، وخلال تحرير تقارير عن بيروت وعن الحصار، طرحتُ فكرة أن ننتقل إلى بيروت الغربية لنقل الأحداث التي تدور فيها”، كما تقول. “كانت للصحافي أوري أفنيري [محرر صحيفة “هعولام هازيه” ويساري إسرائيلي] حينذاك علاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية، فأجرى عدة اتصالات ونجح في الاتصال بمسؤولي المنظمة، واتُخذ قرر أن ننتقل إلى المدينة الغربية في اليوم التالي صباحا. وحقا سافرنا من الفندق – الذي كان في المدينة الشرقية – إلى بيروت الغربية بسيارة أجرة لبنانية. رافقنا فريق من التلفزيون الألماني أيضا. عندما سافرنا لم نعلم أنّنا سنلتقي بياسر عرفات ونجري معه مقابلة. كان الهدف الأساسي من انتقالنا بين جزئي بيروت هو إعداد تقرير عن جزء من المدينة المحاصرة وعن الفلسطينيين الذين يعيشون فيها. لذلك لم تكن هناك استعدادات حقيقية للقاء وأجريَ بشكل فجائي. خلال محادثة مع المسؤول عن الشؤون الإسرائيلية في منظمة التحرير الفلسطينية، عماد شقور، في منزله في بيروت الغربية، دخل ياسر عرفات فجأة مع مجموعة من الأشخاص، لذلك كانت المقابلة في الواقع عفوية. كنتُ حينذاك مصوّرة هيئة تحرير “هعولام هازيه”، وقد أجرى اللقاء أوري أفنيري والصحافية سريت يشاي.
وبما أن اللقاء لم يكن مخططا، لم تكن لدي توقعات. عرفتُ أنّ هذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها عرفات إسرائيليين، وأن اللقاء بحدّ ذاته هو إنجاز صحفي خاص. كما ذكرتُ، كنتُ مصوّرة، ركّزتُ اهتمامي في مجال التصوير وعرفتُ أنّ عليّ التقاط أكبر عدد من الصور، لأنّ الصور هي التوثيق الوحيد للقاء.
هل شعرتِ بخوف؟
لا، لم أخف. اجتياز كل الحواجز الفاصلة بين جزئي المدينة أقلقني أكثر. فمن أجل الوصول إلى بيروت الغربية كان علينا اجتياز عدة حواجز: حاجز الجيش الإسرائيلي، حاجز الجيش اللبناني، حاجز الكتائب اللبنانية، حاجز الجيش السوري، والحاجز الأخير هو حاجز منظمة التحرير الفلسطينية، وهناك كان ينتظرنا مسؤولو المنظمة. في البداية سافرنا بسيارة أجرة. ولكن كان هناك ازدحام مروري، لأنّ الناس الذين كانوا يقطنون في بيروت الشرقية سافروا صباحا للعمل في المنطقة الصناعية في المدينة الغربية. لذلك قررنا أن نسير مشيا على الأقدام، وشعرت بخوف في تلك اللحظة. لم أخف من الفلسطينيين، ولا من ياسر عرفات. فكنا ضيوفهم ولم يكن هناك سبب للخوف.
معانقة “وحش”
ماذا كان انطباعكِ الأول؟
كانت الدهشة رد فعلي الأول. كان عرفات قصيرا، وبدا محبوبا، وبشوشا. تفاجأت، من بين أسباب أخرى، بسبب صورته التي رسمها الإسرائيليون في نظرهم. سماه بيجن [رئيس الحكومة الإسرائيلي حينذاك] “الرجل ذا الشعر على وجهه”، و “الحيوان ثنائي الأرجل”. كانت صورته أسوأ صورة يمكن توقعها. صورة وحش. ولكن وقف أمامي إنسان، من لحم ودم، مبتسما، واقترب إلي بحرارة، وعانقني بدفء، وكان يبدو طيبا. فدُهِشتُ.
“عرفتُ أنّ هذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها عرفات إسرائيليين، وأن اللقاء بحدّ ذاته هو إنجاز صحفي خاص.. وعرفتُ أنّ عليّ التقاط أكبر عدد من الصور، لأنّ الصور هي التوثيق الوحيد للقاء”.
لاحقا في المقابلة تصرّف بصفته دبلوماسيا وسياسيا تحديدا. رأينا في الشقة التي جلسنا فيها طفلتين، وهما ابنتا صاحب المنزل، عماد شقور. كان يبدو أن الطفلتين تحبان عرفات جدّا. فقد عانقهما بينما كانتا تجلسان على ركبتيه. فمن جهة، بدا ذلك بدافع أبوي جدا، ومن جهة أخرى، بدا كالسياسي الذي يحب تقبيل الأطفال. التقطتُ صورة لعرفات مع الطفلتين، وقد أثارت هذه الصور غضب الناس الذين تساءلوا كيف يمكن التقاط صور لذلك “الوحش” مع الأطفال.
ماذا حدث خلال اللقاء؟ ماذا كان عرفات يريد أن يقول للإسرائيليين؟
كان واضحا أنّه أراد أن ننقل رسالة مباشرة إلى الإسرائيليين، يوضح فيها أنه يرغب في صنع السلام ومستعد للحديث مع الإسرائيليين. كان يهمه أن يظهر كشريك سياسي لإسرائيل، أحد دعاة السلام بين الشعبين، وبصفته إنسانا.
كانت هناك أسباب سياسية – دبلوماسية دفعته إلى القيام بذلك وكانت واضحة، فهذا جزء من اللعبة. ونحن الصحافيون حققنا إنجازا صحفيا وكان هذا جزءًا من اللعبة أيضا.
عندما انتهى اللقاء مع عرفات، سمح لنا بلقاء طيّار كان أسيرا حينذاك بأيدي منظمة التحرير الفلسطينية، أهارون أحيعاز، وكانت هذه لفتة إنسانية جدّا. وكان اللقاء مهما جدا حقا. التقينا بعرفات، سمعناه، واستلمنا رسائل لننقلها إلى أسرته.
هل شعرتِ أن رسائله كانت صادقة؟ أم أنها كانت دعاية؟
أعتقد أنّ السياسيين يدمجون بين كلا الأمرين دائما.
النساء في قلب الحرب
هل يمكنكِ أن تتحدثي عن لحظة من اللقاء تتذكرينها بشكل خاص؟
كانت هناك لحظة عرض فيها عرفات الزواج على سريت يشاي، الصحافية التي كانت معي. غازلها قليلا، وكان هذا جزءًا من استقباله، ولكن استثنائيا. حينها لم يضع عرفات الكوفية الثابتة على رأسه، وإنما كان يضع قبعة. وفي مرحلة ما أزال القبعة، فنجحتُ في التقاط الكثير من الصور له دونها، وأصحبت هذه الصور نادرة. وشارك محمود درويش في اللقاء إضافة إلى عرفات أيضا. بل وتحدث عن هذا اللقاء في كتاب له عن بيروت.
كان وجود سرغوستي في لبنان استثنائيا. رغم أن في المجلة الأسبوعية “هعولام هازيه”، كان هناك الكثير من النساء، ففي بيروت، التي كانت منطقة حرب محاصرة من قبل الجيش الإسرائيلي، كان وجود مصوّرة في الحرب مشهدا استثنائيا جدا.
“لم تكن هناك مصورات حروب”. كما تقول عنات. “غالبا، لم يكن هناك الكثير من النساء اللواتي نقلن أحداث الحرب ومجرياتها في لبنان. في مرحلة معينة، في بداية الحرب، رفض الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، الذي وافق على دخول الصحافيين إلى لبنان، إعطاء تصاريح دخول للصحافيات. فعارضتُ بالإضافة إلى صحفيّتين فتم تغيير القرار. قبل تغيير القرار، اضطررنا إلى التسلل إلى لبنان، لأننا كنا نعارض قرار حظر دخولنا.
رجل صاحب رؤيا
اليوم بعد مرور كل هذا الوقت، ما هو رأيك في عرفات؟ هل كان يؤمن بالسلام حقا؟
هذا سؤال معقّد والإجابة معقدة أكثر. أعتقد أنّه واجه ضغوطا يصعب على الإسرائيليين فهمها، فهناك: زعماء العالم العربي، التيارات الدينية، المجتمع الدولي، وكل حراس القدس والحرم الشريف، اللاجئون، وبطبيعة الحال إسرائيل. لم يكن عرفات قادرا على العمل بشكل يرضي كل تلك الأطراف تقريبا. أعتقد أنّه كان صعبا عليه إعادة تغيير صورته من رئيس منظمة إرهابية، إلى زعيم وسياسي شرعي. فربما كان يرغب حقا في التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل وآمن أنّ ذلك ممكن. ولكن بسبب كل الضغوط، لم يستطع إيجاد الطريق وقيادة الفلسطينيين إلى إنهاء الصراع. يتطلب الأمر هناك حقا مستوى قيادة وقوة كبيرين جدا من أجل شقّ الطريق بين كل تلك الضغوط المتناقضة.
هل تعتقدين أن الإعلام الإسرائيلي قد ظلمه؟
بالتأكيد. لم يتعامل معه الإعلام الإسرائيلي معاملة جيدة منذ بداية الطريق. ولم يحاول حتى أن يفهم الضغوط التي كان يتعرض لها عرفات. ونظر إليه نظرة “الوحش” الذي حاول بيجن رسمها فحسب.
ما هو رأيكِ في القيادة الفلسطينية اليوم؟ كيف تنظرين إلى أبي مازن مقارنة بعرفات؟
لا يمكن المقارنة بينهما. فأبو مازن هو زعيم تكنوقراط، مدير. أما عرفات فكان – في الجيّد والسيّء – رجل ذا رؤيا، وقدرة بلاغية متطوّرة. كان عرفات أيقونة فلسطينية في حياته أيضا. لكن أبو مازن ليس كذلك.
أتصور أنه لو كان هنالك شريك إسرائيلي صحيح لكان بإمكان عرفات أن يقود عملية سلام تؤدي إلى تسوية سياسية. ولكن، ربما أنا مخطئة، على ضوء الضغوط التي واجهها لم يكن عرفات قادرا حقّا. أبو مازن لا يتمتع بتلك القيادة والشجاعة. إنه ضعيف ورؤيته ليست واضحة.