40 دقيقة حتى ساعة من السفر من المدينة الوردية، تل أبيب، يعيش مئات المثليين الفلسطينيين تحت ستار من السرّية الكبيرة والتهديد الملموس على حياتهم. سواء في رام الله العلمانية أو في نابلس التقليدية، يُعايش آلاف المثليين والمثليات الفلسطينيين يوميا قبضة المجتمع الفلسطيني المحافظة ويضطرّون إلى مواجهة تقاليد مجتمعية محافظة، دينية وتضايق كل ما هو أجنبي وكل ما هو “غير طبيعي”. وإنْ كان ذلك غير كاف يُضاف إلى كل هذه المعمعة المهدّدة أيضًا الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي يزيد من صعوبة حياة الكثيرين الذين يضطرّون على إخفاء هويّتهم الجنسية والحياة في كذبة.
“فكرت في الانتحار وإنهاء هذه القصة. أشعر أنني مضطهد، أسرتي قطعت العلاقة معي قبل نحو عام ونصف، لم أرَ أختي الصغيرة منذ أكثر من نصف عام. أمي غير مستعدة للحديث معي وأنا أعلم أن والدي يبذل قصارى جهده في البحث عنّي. فهمت من أمّي أنّه أرسل عمّي عدة مرات للبحث عنّي في شوارع جنوب تل أبيب من أجل اختطافي. لدى عمّي تصريح دخول وعمل في إسرائيل ولن يتردّد في اختطافي وإعادتي إلى نابلس”. يخبرني هيثم (اسم مستعار، 21) بهذا السرّ الثمين في محادثة ودّية ونحن نشرب القهوة في منزل شريكه الإسرائيلي جنوب تل أبيب.
مقابل مدينة تل أبيب الملوّنة التي تزيّنت هذا الأسبوع بأعلام الفخر ومقابل مسيرة الفخر المشمسة والمبتسمة، التي تستضيف هذا العام عشرات آلاف الإسرائيليين والسيّاح من جميع أنحاء العالم، يبرز بشكل أساسيّ شعور هيثم الخانق والذي يشعر بأنّه هو والعديد من أمثاله لا يستطيعون الاستمرار في الحياة في ظلّ هذا الواقع غير المنطقي. “أخرَجوني من الخزانة رغمًا عنّي. أدركت دائما أنّني مثليّ وليس لوطيّا، كما كانوا يصفونني في المدرسة التي تعلّمت فيها في نابلس. في سنّ التاسعة عشر تركت القرية وسافرت إلى رام الله. عثرت هناك على عمل في مقهى وتعرّفت هناك أيضًا على شريكي الأول. عرف الناس في رام الله فورا ميولي الجنسية وكانوا يهزأون منّي. لم أستطع معانقة أحمد (شريك هيثم، وهو أيضًا اسم مستعار) ولم يسمح لي هو بإمساك يده في المنزل. بالنسبة له كان الانجذاب الجنسي إليّ تشوّه، انحراف وهو يعيش في وهم أن ذلك سيمرّ. تدهورت علاقتنا بسرعة كبيرة وكشف لوالديّ بأنّني مثليّ. ادعى بأنّني حاولت طوال الوقت أن أضاجعه وهو اليوم متزوج ولديه طفلة”.
بينما يروي قصّته الشخصية أرى الحزن في عينيه. عانقه دافيد، شريكه الإسرائيلي، وحاول تهدئته: “أزعجت نومي محادثة هاتفية يوم الجمعة في الصباح باكرا جدّا. كانت أمي على الهاتف وقالت لي إنّ والدي ليس على ما يرام وعليّ أن أعود فورا إلى القرية. شككت بالأمر ولكنّني لم أستطع أن أتخيّل ما سيحدث. وصلت إلى القرية وكان سكان الحي الذي أسكن فيه نائمين. دخلت إلى المنزل وشاهدت أبي في غرفة الجلوس. توجّهت إلى أمي وقلت لها مرحبا. كان وجهها عالقا في الأرض ووجدتْ صعوبة في رفعه. حينها فهمت أنّ شيئا سيّئا سيحدث. قفز أبي عليّ من الأريكة وبدأ بضربي بقوة. “يا لوطي يا لوطي، يا فاجر”، أسمع هذه الكلمات في رأسي كل ليلة عندما أخلد للنوم. حاولتْ أمي أن تفصل بيننا وتلقّت ضربات قوية هي أيضًا. كانت أختي الصغيرة التي وقفت جانبًا في صدمة. “سأمزّقك إلى قطع. لن يكون لديّ ابن شاذ. لن تخرج من المنزل وسأزوّجك بالقوة. لا رام الله بعد الآن ولا مقاهٍ وبيوت دعارة وأصدقاء بعد الآن”.
قضى هيثم الأسابيع الخمسة التالية في غرفة نومه محبوسًا، دون إمكانية الوصول إلى الهاتف أو الهواء، يتعافى من إصاباته الخطيرة. “كانت أمّي تعدّ لي الوجبات وكان أبي يدخلها إليّ كالكلب في الغرفة. شعرت بالمهانة. فهمت لاحقا أنّ أحمد هو الذي أبلغ عنّي. أردت أن أنكر ولكنّي لم أستطع. جاء عمّي وابن عمّي لحراسة باب غرفتي في كل مرة كان أبي يريد الخروج لبعض المهام. لم يثق بأمي أن تحرسني. لقد كانوا وحدهم من يشترك بهذا السرّ الفظيع. لم يكن يُسمح لأي فرد في العائلة بأن يتحدّث عن الموضوع”.
طوال تلك الفترة، انتظر هيثم اللحظة المناسبة. “لم أستطع الهروب والذهاب للشرطة الفلسطينية. لم يكونوا ليفعلوا شيئا وكانوا سيعيدوني إلى المنزل بادعاء أنّها مسألة عائلية. فهمت أنّ عليّ الهرب. في إحدى الليالي طلبت الذهاب إلى الحمّام. جلس أبي في غرفة الجلوس وفتحت لي أمّي الباب. في طريقي إلى الحمّام شاهدت والدي غارقا في برنامج تمّ بثّه على التلفزيون. أدركت فورا بأنّ هذه هي فرصتي للهرب. دخلت إلى الحمّام حيث كانت أمامي دقائق قليلة للتفكير في طريقة للهرب وإلى أين سأهرب. عندما خرجت من الحمّام انسابت من عينيّ الدموع لأنّني أدركت أنّها ستكون المرة الأخيرة التي سأرى فيها أمّي في الفترة القريبة. لا أذكر دقائق الهروب بالتفصيل. خرجت من الحمّام وركضت باتجاه الباب كحيوان مطارد قبل ذبحه في المسلخ. لحسن حظّي لم يكن الباب مغلقا. ركضت في الحيّ مثل المجنون ولم أعرف إلى أين. خلال الهرب أدركت أنّني لن أستطيع الليلة الوصول إلى إسرائيل. اضطررت إلى الاختباء في أحد البساتين القريبة. لحسن حظّي، لم يبحث عنّي والدي وعمّي، فلم يريدا إثارة جلبة في الحيّ وإلا فسيسألونهما عن كل القصة. بعد منتصف الليل وجدتُ طريقي إلى القدس الشرقية. صعدتُ هناك بملابسي الوحيدة التي كنت أرتديها إلى الحافلة في الطريق إلى تل أبيب. لم يكن الخوف في قلبي إذا عرفني أبناء عائلتي وإنما إذا أوقفني شرطي أو جندي إسرائيلي لدى الدخول إلى المحطّة المركزية في القدس”.
ولكن حالف الحظّ هيثم. فقد ساعدته جدّا العبرية القليلة التي تحدث بها، والتي تعلّمها عندما عمل في أعمال الترميم في إسرائيل عندما كان في سنّ الخامسة عشر. سيقضي هيثم الأيام التالية في تل أبيب بحثا عن ملاذ آمن وبحثا عن عمل في مجال البناء. “تذكّرتُ اسم المقاول الإسرائيلي الذي عملتُ أنا ووالدي معه قبل عدة سنوات. بحثتُ عن اسمه وعثرتُ على رقم هاتفه المحمول. اتّصلتُ به وتعرّف عليّ مباشرة. في البداية لم يكن يرغب بقبولي للعمل لأنّني لم أكن أملك تصريحا بالإقامة أو العمل في إسرائيل. توسّلتُ إليه وقلت له إنّني لن أقوم بالمشاكل وإنّني بحاجة فقط إلى بعض المال كي أقرّر ماذا سأفعل بعد ذلك. وافق على قبولي للعمل معه في البناء في أشدود. بعد يوم من العمل كنت أبقى في موقع البناء وأنام في حاوية شحن. أردت الاتصال بأمي ولكني خفت حدّ الموت بأن يستغلها أبي من أجل أن يستخرج منها معلومات ويأتي ليبحث عنّي. خشيت من العمال الفلسطينيين الذين عملت معهم، بأن يكون أحدهم يعرف أبي ويبلّغ عنّي”.
تعرّف هيثم إلى دافيد في أحد أوقات الترفيه الأولى التي خرج إليها في مدينة تل أبيب الكبيرة، “تعرّفتُ في العمل على أيمن (اسم مستعار) الذي أقنعني في إحدى الأمسيات بالخروج لقضاء الوقت في تل أبيب. شعرتُ بخوف شديد. في تل أبيب يتجوّل الكثير من رجال الشرطة. لم أتناول الكحول في حياتي أبدا وها أنا أقضي الأوقات في وسط تل أبيب في حانة للمثليين. التقيت هناك بدافيد. كان ذلك حبّ من النظرة الأولى”.
علم دافيد فورا بأنّ هيثم فلسطيني ولم يكترث لذلك على الإطلاق، “علمت بأنّه فلسطيني. كان يتحدّث العبرية بصعوبة. علمت أيضًا أن هناك قصة صعبة وراءه. انفتح هيثم أكثر فأكثر على المجتمع الإسرائيلي. أخبرني بقصّته وحاولنا بواسطة جمعية حقوق المثليّين إيجاد حلول له. جنّدنا محاميّا متخصّصا بحقوق الإنسان ومتخصّصا بإعطاء الإجابات القانونية بشأن إقامة هيثم غير الشرعية في إسرائيل”.
ينمو عدد المثليين الفلسطينيين الذين يأتون للبحث عن ملجأ في تل أبيب كلّ عام. ويقدّر الناشطون من أجل المجتمع المثليّ في إسرائيل أنّه في كلّ عام يتجوّل في شوارع تل أبيب أكثر من 200 شاب فلسطيني مثلي. الجزء الأكبر منهم عمال في أعمال مؤقتة، ينجر آخرون للدعارة وعدد قليل يستطيعون النجاة بقواهم الذاتية، وطلب تصاريح إقامة متكرّرة داخل إسرائيل ويستطيع أفراد قليلون الحصول على لجوء سياسي في دول أوروبا أو في كندا. حصل هيثم في الوقت الراهن على تأشيرة إقامة مؤقتة في إسرائيل، لأنّه نجح في إثبات أنّ حياته في خطر، ويحاول هو ودافيد كسب لقمة العيش ويأملان أن يستطيع الحصول قريبا على لجوء سياسي في كندا.
“السلطة الفلسطينية تطاردنا كما لو كنّا مصابين بالجذام”
بالنسبة للمجتمع والسلطة الفلسطينية، فالمثليون الهاربون من قراهم أو من المدن الفلسطينية يُفترض أنهم من المتعاونين مع إسرائيل، المجرمين الذين قاموا بمخالفات خطيرة لقواعد الأخلاق والذين يسبّبون ضررا خطيرا على شرف العائلة والروح المعنوية الجماعية. “أعلم بالصدفة عددا غير قليل من قصص الشبان الفلسطينيين الذين تم القبض عليهم في حالة تلبّس، احتُقروا من قبل أسرهم، ضُربوا في الشارع ووقفت الشرطة جانبا ولم يرتفع لها جفن. نحن حيوان مطارد. حتى المجتمع الإسرائيلي العام، بالمناسبة، ينظر إلينا نظرة عداء في معظم الحالات”، قال لي هيثم.
تعتبرُ حقوق المثليين من المحرّمات الخطيرة في السلطة الفلسطينية. المثلية الجنسية ليست محظورة في القانون الفلسطيني، ولكن حقوق المثليين غير مصانة.
يتضمن القانون الأساس للسلطة الفلسطينية بنودا للحماية ضدّ التمييز على خلفية العرق، الجنس، اللون، الدين، الرأي السياسي أو الإعاقة، بالإضافة إلى حماية حقوق الإنسان، حرية التعبير وغيرها. ومع ذلك، ليس هناك في السلطة الفلسطينية تشريع محدّد لحماية حقوق المثليين من التمييز أو المضايقة. وفقا لملفّ القوانين المعادية للمثلية والذي نُشر من قبل الرابطة الدولية للمثليات والمثليين (ILGA) عام 2010، فإنّ جعل المثلية الجنسية مقنّنة في السلطة الفلسطينية هو أمر ترقيعي وليس موحّدا. فمن جهة، تم إلغاء إخراج المثلية الجنسية خارج القانون في عام 1951، ومن جهة أخرى في قطاع غزة، ما زال البند رقم 84 في القانون الانتدابي منذ العام 1936والذي يحظر إقامة علاقات جنسيّة بين الرجال (لكن ليس بين النساء) ساري المفعول.
إسرائيل تتنصّل من المثليّين الفلسطينيين
https://www.youtube.com/watch?v=J0PKz3Qz9uw
“إذا كنت مثليّا فلسطينيا تعرف فلسطينيا مطلوبا، فإنّ الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ستجعل حياتك مريرة. تُعتبر كل حالة يقع فيها في عصا صيد الشاباك، فلسطيني بريء يمكن ابتزازه مقابل المعلومات أو من أجل تجنيده كمتعاون، حالة ذهبية بالنسبة للمجتمع الاستخباراتي في إسرائيل. “حدّثني صديق جيّد حاولوا تجنيده إلى صفوف المتعاونين ضدّ السلطة الفلسطينية بأنّ هؤلاء الذين حاولوا تجنيده تعلّموا كلمات مختلفة لوصف المثليّ بالعربية”، كما قال لي هيثم.
ليست هذه الأمور جديدة لمن يعرف تعامل الشاباك والطرق التي يستخدمها من أجل تجنيد المتعاونين لصالح تعميق السيطرة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. يضع عناصر الشاباك أمام المثليين الفلسطينيين خيارا في منتهى القسوة: التعاون مع إسرائيل والمخاطرة بالإعدام أو أن ينكشف سرّهم ويعانون من الاغتراب الأسري، الاعتداءات العنيفة وربّما أيضًا يُقتلون.
قبل عدّة أشهر (كانون الأول 2014)، قرّرت لجنة شكّلتها إسرائيل في تقرير قدّمته لكل الجهات المعنيّة، بأنّ السلطة الفلسطينية لا تضطهد المثليين بشكل مؤسسي. على خلفية طلبات مختلفة للسلطات والتماسات عديدة للمحاكم من قبل الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية الطالبين للجوء بدعوى وجود خطر على حياتهم على خلفية كونهم مثليين، أو على خلفية شرف العائلة وأسباب أخرى ليست أمنية، شُكّلت في إسرائيل هذه اللجنة التي ناقشت الحاجة إلى إقامة جهاز مستقلّ ينظر في طلبات لجوء الفلسطينيين على خلفية هذه الأسباب.
بالإضافة إلى ذلك، يشير التقرير إلى أنّ الكثير من هؤلاء ممّن يطرحون هذه الحجة لديهم ماض جنائي، أو شركاء حياة في إسرائيل، وربّما تكون هذه البيانات هي التي تقف وراء طلباتهم. ومع ذلك، يُشار إلى أنّه لا يمكن استبعاد إلغاء إمكانية أنّه في حالة ما خاصّة يكون هناك قلق حقيقي على حياة شخص ما، ولكن على ضوء موقف السلطة والمجتمع الفلسطيني من المثليين والمثليّات فليس من الصواب التعامل مع “هذه الحالات النادرة كمجموعة مضطهدة”، وستتمّ مراجعة كلّ حالة في الإطار العامّ القائم.
ترفض وزارة الأمن الداخلية والشاباك تقديم مكانة شاملة أو خاصة للفلسطينيين الذين يبحثون عن وسائل المساعدة القانونية. نادرا ما يُعطى أولئك الشبان الفلسطينيون تصريح إقامة مؤقّت على أساس فردي. “أحيانا يتم أيضا اختطاف الفلسطينيين الذين لديهم تصاريح مؤقتة للإقامة في إسرائيل بهدف إعادتهم إلى أراضي السلطة من قبل جميع أنواع الأقارب والأصدقاء. تم اختطاف أيمن صديقي الجيّد بهدف إعادته إلى قريته. أعلم أن والده يحاول تزويجه في هذه الأيام بالقوة. الجميع يُطاردنا. يكفي أن ترُدّ على أحد ما بلكنة عربية، وستجد أنّ 12 حارس أمن وشرطي سيقومون بتفتيشك. في السلطة الفلسطينية يحقّقون مع معارفي من خلال تعذيبات شديدة جدّا، بهدف معرفة ما فعلوه في إسرائيل. يشتبهون في أن يكونوا متعاونين. قد يتراوح الاعتقال من قبل الجهات في السلطة بين أسبوعين أو ثلاثة من الاعتداء الجسدي وحتى خمس سنوات من ذلك. يعتمد الأمر كثيرا على من تكون، كم لديك من المال، وأية مكانة تحظى بها أسرتك”، كما يقول لي هيثم.
يواجه الشبان الفلسطينيون المثليّون واقعًا صعبًا ومضاعفًا. يضطرّ الكثيرون منهم إلى العمل بالدعارة في إسرائيل أو البقاء على قيد الحياة وهم معتمدون على الكفيل الإسرائيلي الذي يموّلهم. وإلا فليس لديهم فرصة البقاء على قيد الحياة. إنّهم معرّضون للابتزاز، للطرد والضرب، بينما في السلطة فهم معرّضون لمشاكل أكبر.