إنّ سقوط مدن رئيسية في العراق بيد المتطرّفين السنّة، الذين ينتمون للتنظيم السنّي “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، قد يؤدي إلى تأثيرات تتجاوز حدود تلك الدول. في العراق نفسه، سيتعزّز اتجاه التقسيم الفعلي للبلاد، وهي عملية بدأت مع سقوط نظام صدام حسين في الغزو الأمريكي عام 2003. والكيان المستقلّ لكردستان هو حقيقة ثابتة تعترف بها جميع الجهات الإقليمية. إنّ سيطرة العناصر السنّية على المناطق في وسط العراق قد تؤدّي، إنْ لم تتوقف، إلى إقامة كيان سنّي مستقل حتى الوسط، بحيث يسقط جنوب العراق كثمرة ناضجة في يد إيران. في هذه الحالة، سيتحوّل العراق إلى مصدّر للإرهاب حيث ستستغلّ التنظيمات المختلفة فيه ضعف سوريا لتوسعة نشاطها في الشرق الأوسط.
ومن المفارقة، فجميع الدول المجاورة للعراق بما في ذلك الولايات المتحدة تتواجد في ائتلاف غير رسمي حيث أنّ لكلّ واحدة أسبابها للاهتمام وربّما للكثير من القلق على ضوء التأثيرات المباشرة وطويلة الأمد للتطوّرات الأخيرة في العراق. إنّ إضعاف قبضة الحكومة العراقية المركزية في أجزاء الدولة المختلفة يخدم ربّما المصالح الإيرانية في توسيع نفوذها وإمكانية إنشاء ارتباط برّي للسيطرة الإيرانية مع سوريا وحزب الله. ولكن هذا الانتصار للعناصر السنّية التي لم تعتمد على المساعدة الإيرانية لن يُعتبر إنجازًا في طهران. إنّ احتمال سقوط مدن مهمّة للشيعة كالنجف وكربلاء بيد التنظيم السنّي يبدو في طهران وكأنّه كابوسًا.
جميع الدول المجاورة للعراق بما في ذلك الولايات المتحدة تتواجد في ائتلاف غير رسمي حيث أنّ لكلّ واحدة أسبابها للاهتمام وربّما للكثير من القلق على ضوء التأثيرات المباشرة وطويلة الأمد للتطوّرات الأخيرة في العراق
تنظر تركيا هي أيضًا إلى التطوّرات بقلق حيث أنّ سيطرة العناصر الإرهابية على الأراضي المحاذية لحدودها، تزيد قلقها من نشوء مساحة في الجنوب منها، والتي تمتدّ على أجزاء من سوريا والعراق، من شأنها أن تشكّل مصدر إزعاج للأمن والذي قد يُنشئ حالات تجبر النظام في أنقرة على اتخاذ خطوات عسكرية قد امتنع عنها حتى الآن. ستضطرّ تركيا، مع طابعها المسلم السنّي، إلى متابعة تسلّل العناصر المنتمية إلى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” إلى أراضيها.
وتراقب الأردن أيضًا التطوّرات في العراق بقلق. ولقد أدّت الحرب الأهلية السورية إلى ما يزيد عن مليون لاجئ سوري يبحثون عن مأوى في الأردن. وكذلك، أدّت الحرب في العراق عام 2003 إلى أن يقطع أكثر من نصف مليون مواطن في البلاد الحدود إلى الأردن. رغم أنّ بعضهم قد عاد بعد مرور عدّة سنوات، ولكن الشتات العراقي في الأردن لا يزال تعداده يبلغ أكثر من ربع مليون شخص. وسيزداد الشتات دون شكّ قريبًا على ضوء الهروب الجماعي الذي بدأ من المناطق التي احتِلّتْ من قبل تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. ولكن هذه التطوّرات هي مجرّد جزء من عوامل القلق في عمّان. تُنشئ حدود الأردن مع سوريا والعراق ضغطًا كبيرًا على الجيش والأجهزة الأمنية الأردنية. حتى لو استخدم اللاجئون من العراق معبر الكرامة فقط (الوحيد في الحدود المشتركة) واللاجئون من سوريا معبري الرمثا وجابر على الحدود مع سوريا – دون محاولة عبور الحدود – فستجد تلك الأجهزة صعوبة في أن تمنع تمامًا تسلّل الخلايا الخامدة بل والنشطة إلى داخل أراضي المملكة. ومن الجدير ذكره أنّ المعبر في الحدود مع العراق يتواجد في محافظة الأنبار التي حظي تنظيم “الدولة الإسلامية” فيها بنجاحات كبيرة منذ بداية العام 2014. لقد تعاملت السلطات الأردنية حتى الآن بنجاح مع المخاطر الناتجة عن مشاكل داخلية سياسية واقتصادية. من شأن التطوّرات الأخيرة في سوريا والعراق أن تغيّر التوازن الداخلي الراهن.
وتنظر دول الخليج هي أيضًا بقلق إلى التدهور الداخلي في العراق والرسوخ الإقليمي للتنظيمات المتطرّفة التي تفتقد الالتزام بالأنظمة المحافظة على الإطلاق، رغم كونها ذات انتماء ديني سنّي. إنّ إضعاف النظام المركزي في بغداد، رغم كونه شيعيّا في أساسه، والذي سيسمح بحرّية عمل أكبر في الجزء الشمالي من الخليج؛ لن يُمكن قبوله في دول الخليج، التي تعيش بالفعل في محنة على ضوء تراجع المصالح الأمريكية في المنطقة، وسيؤدي إلى قلق. من المبكّر أن نقيّم تأثيرات سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على منشآت النفط الرئيسية في العراق، بما في ذلك منشآت التكرير. قد يؤثّر هذا الأمر مع مرور الوقت على القدرة على تصدير النفط من العراق، وبشكل غير مباشر على استقرار أسعار الطاقة.
ستضطرّ الولايات المتحدة على أخذ دور الريادة، ولكن قبل ذلك ستحتاج إلى اتّخاذ بعض القرارات بخصوص المنطق من وراء تسليح الجيش العراقي بالسلاح المتطوّر
ومن المفارقات، أن ينشأ نوع من التحالف بين الدول التي لديها مصلحة في القضاء على توطيد وجود “الدولة الإسلامية” وهي لا تزال في بدايتها. في العراق نفسه، بدأ تعاون بين القوة العسكرية الكردية، “البشمركة”، مع الجيش العراقي بهدف منع تقدّم قوات “الدولة الإسلامية”. والمسألة الفورية التي تقف أمام الولايات المتحدة هي تسليح الجيش العراقي. إنّ جزء كبير من كمّيات السلاح، هو من صناعة الولايات المتحدة، والذي سقط في الأيام الأخيرة بيد التنظيم؛ ويُطرح السؤال بخصوص الخطر المتعلّق بتسليح الجيش العراقي أو الثوّار “الجيّدين” في سوريا بالأسلحة المتطوّرة.
تطرّق رئيس الولايات المتحدة أوباما في خطابه في ويست بوينت في 28 أيار عام 2014 طويلا لسؤال القتال بما أسماه الإرهاب الناشئ ليس من القاعدة وإنما من التنظيمات المتفرّعة عن القاعدة والتي لا تخضع للسيطرة المركزية لهذا التنظيم. وأوضح أوباما الذي لم يرفض في خطابه هذا عملية أمريكية من جهة واحدة فيما لو تعرّضت حليفة أمريكا للخطر، وأنشأ شعورًا بأنّه في حالة مثل هذه التي تجري في العراق، سيفضّل العمل مع شركاء آخرين. حظي تنظيم “الدولة الإسلامية” باهتمام واسع في خطاب مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، آن باترسون، الذي جرى في منتدى الولايات المتحدة: العالم الإسلامي في قطر بتاريخ 9 حزيران عام 2014 حيث قالت: “أعتقد أنّنا نستطيع فعل الكثير معًا، أن نحتوي وأن نصدّ التهديد الذي تضعه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، والطموحات في الشام لإقامة دولة إرهابية غربيّ العراق وشرقيّ سوريا”. وأضافت، على الولايات المتحدة ودول المنطقة أن تعمل معًا للتغلّب على الخلافات وإيجاد حلول مستدامة للتهديد.
ستضطرّ الولايات المتحدة على أخذ دور الريادة، ولكن قبل ذلك ستحتاج إلى اتّخاذ بعض القرارات بخصوص المنطق من وراء تسليح الجيش العراقي بالسلاح المتطوّر. وهو سؤال صعب ويختلف تمامًا ويرتبط بتفكير إيران بطرق التعامل مع الوضع الجديد في العراق. قد تحاول إيران أن تخرّب الجهود المشتركة إنْ لم تشترك بها بطريقة أو بأخرى، وسترى نفسها جديرة بالحصول على مقابل في المجال النووي وعلى الأقل في كلّ ما يتعلّق بتخفيف العقوبات. إنّ مشاركة إيران، دون علاقة بتصرّف سوريا وتعاونها الوثيق مع حزب الله، تبدو غير ممكنة ومن الواضح من جميع وجهات النظر أن النظرة لإيران في السياق العراقي تنطوي على الكثير من المشاكل. والسؤال المثير للاهتمام هو: هل تمّ طرح الموضوع في المحادثات الثنائية التي أجرتْها الولايات المتحدة وإيران قبل بضعة أيام، أم إنّ هذه المحادثات تطرقت إلى القضية النووية فقط. وأيضًا فإنّ علاقة دول الخليج بتلك القضية غير واضحة، رغم أنّها من الممكن أن ترى في القضية العراقية فرصة أخرى لفحص القدرة على فتح صفحة جديدة في العلاقات مع إيران.
ليس هناك شك أنّ نوايا قادة تنظيم “الدولة الإسلامية” وتوطيد تواجده في الأراضي وغيرها، تشكّل تهديدًا أمنيًّا محتملا لإسرائيل
إنجازات “الدولة الإسلامية في العراق والشام” هي علامة فارقة في تاريخ الشرق الأوسط رغم عدم وجود سابقة مشابهة بشكل تامّ. ولقد سبقها نجاح حزب الله في التحوّل إلى قوة سياسية رائدة في لبنان وسيطرة حماس على غزة. وثمة خطر أن تتحوّل هذه الإنجازات لحالة من التدفّق الدائم لجميع المشاركين المباشرين وأيضًا للولايات المتحدة. ولذلك، هناك قلق في أن تتحوّل هذه الإنجازات إلى نصر باهظ الثمن، فإذا تجنّدت دول المنطقة، تحت قيادة أمريكا، لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” فسيجد مقاتلوه الأكثر حماسة صعوبة في الوقوف ضدّ ما سيوضع في الحملة ضدّهم سواء من ناحية نوعية الأسلحة أو من ناحية الخطوات التي سيتمّ اتّخاذها لقطع أنابيب تمويل هذا التنظيم.
تهتم إسرائيل بطبيعة الحال اهتماما كبيرًا بنجاح الحرب ضدّ إنشاء “الدولة الإسلامية” في أيّ منطقة في الشرق الأوسط. حتى لو كانت جهود التنظيم في هذه المرحلة غير موجّهة ضدّ إسرائيل، فليس هناك شك أنّ نوايا قادة هذا التنظيم وتوطيد تواجده في الأراضي وغيرها، تشكّل تهديدًا أمنيًّا محتملا لإسرائيل.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع معهد أبحاث الأمن القومي INSS