بعد أحداث عملية الدرع الواقي 2002 مباشرة، اكتسبت فكرة تغيير عرفات أو على الأقل إضعافه زخمًا لدى الجهات الدولية – وتحديدًا لدى المسؤولين في الدولة ولدى مبعوثي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ظلت هذه الفكرة قيد التفكير طوال أشهر قبل ذلك بين جهات إسرائيلية وفلسطينية – كل واحد لدوافعه الخاصة.
أول اسم طُرح للبحث على طاولة تلك الجهات كمرشح لاستبدال عرفات أو على الأقل كمرشح لتقاسم صلاحيات رئيس السلطة، كان اسم محمود عباس – أبو مازن، الشخصية رقم 2 في منظمة التحرير الفلسطينية ومهندس اتفاقيات أوسلو من الجانب الفلسطيني. “أبو مازن معتدل، متزن، وأساسًا مناهض للعنف”، قال المؤيدون للفكرة بما فيهم مسؤولون إسرائيليون. بعد بضعة أشهر من الضغط وجولة عمليات إقناع، اضطر عرفات أن يتقاسم صلاحياته مع نائبه الذي تم اختياره من قبل المجلس التشريعي الفلسطيني في العام 2003 ليكون أول رئيس حكومة في السلطة الفلسطينية.
اضطر أبو مازن للاستقالة من رئاسة الحكومة بعد نصف عام فقط من تسلمه منصبه وذلك بعد حملة مدروسة جيدًا لنزع الشرعية عنه قادها لأشهر رجال عرفات الذين اتهموه بأنه تعاون مع إسرائيل، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجهات عربية مثل مبارك، لاستبعاد “الختيار”، أي عرفات. أعداء أبي مازن لا يتوانون بتذكيره بهذه الحقيقة في كل فرصة، وتدل على هذا محاولة أبي مازن دائمًا التمويه على ذلك، بأشكال عديدة ومنها مواقفه السياسية، التي أدت في السنوات الأخيرة إلى رفض عرض رئيس الوزراء السابق أولمرت، ورفض خطة كيري حاليًا.
اليوم، بعد 10 سنوات من اعتباره، من قبل الكثيرين في إسرائيل والغرب، الفارس على الحصان الأبيض الذي سينقذ العملية السياسية من تصلب عرفات، يتضح بأن الكلمات بقيت الكلمات ذاتها إلا أن أبي مازن أصبح مكان عرفات. هو، “متشدد، ليس مستعدًا للتنازلات ويحبط أي إمكانية للتسوية” يتهمه الكثيرون اليوم في إسرائيل، وتحديدًا في الحكومة.
هل حقًا تغيّر ذلك الرجل خلال 10 سنوات بشكل تام؟ الإجابة بالطبع هي سلبية. عارض أبو مازن نهج ياسر عرفات الذي كان يعتقد أن بإمكانه مجابهة إسرائيل دون دعم المجتمع الدولي، الرجل ولا يزال يرفض العنف، وسيفعل أي شيء لمنع عزل السلطة الفلسطينية.
شيء واحد فقط لا يختلف فيه عن عرفات، أو تقريبًا لا يختلف عنه – وهو تمسكه بالخطوط الحمر المتعلقة بالحدود، القدس، المستوطنات وقضايا الحل النهائي الأخرى. هنا يتضح بأن القادة تبدلوا، لكن الخطوط بقيت حمراء، أيضًا في عصر أبي مازن، ومن هنا الشعور في إسرائيل بأن الحديث هو عن الموقف ذاته رغم تغيَر الوجوه وتغيَر القادة.
في هذا السياق يقول عضو في اللجنة المركزية لحركة فتح إنه فقط من أوهم نفسه وفكر بأن يبدل عرفات بأي ثمن، صدق بالفعل وبسذاجة أن أبي مازن، والسلطة الفلسطينية “سيخفضان السعر أو ستبدأ عملية اغتيال بالجملة للثوابت الفلسطينية وهي إقامة دولة داخل حدود الـ 67 عاصمتها القدس الشرقية، التصميم على حدود معتمدة على ان توفَر هذه الحدود سيادة وأيضًا أن تكون متصلة وغير مجزأة وكذلك إيجاد حل عادل لمسألة اللاجئين”. وأضاف المسؤول “ربما كان أبو مازن لا يعتمر الكوفية ولا يصيح كثيرًا في خطبه، لكنه يدرك تمامًا ما كان عرفات يدركه – ماذا يجب أن يكون من أجل ضمان قيام دولة فلسطينية مستقلة”. وهناك من بين المقربين من أبي مازن من يقول إنه في مسائل معينة أظهر أبو مازن تعنتًا أكثر من ما أبداه عرفات قبله.
وهنا نصل إلى مسألة الظل. ليس الظل الذي أمام الشمس، بل ظل عرفات الكبير. أولئك الذين بحثوا في شخصية أبي مازن لم يتفاجأوا من المواقف التي أبداها في أشهر المفاوضات الأخيرة. حيث لم يكن لديهم أدنى شك – ما لم يقبله عرفات ويوافق عليه، أبو مازن أيضًا لن يقبله. ظل عرفات من جهة، ورغبة أبي مازن من جهة أخرى في إثبات أن الخلاف بينه وبين عرفات كان يتعلق بالنهج والأسلوب والأدوات وليس في الفحوى والأهداف، ورغبته الدائمة بإرساء فكرة أنه يكمل طريق عرفات ولا يستبدله، ستجعل أبي مازن يصَر على رأيه في المسائل التي أصَر عليها عرفات، لأن الشخصين، كما ذكرنا، يختلفان بالنهج والأدوات ولكن ليس بماهية الأمور والأهداف. وليس صحيح الحديث هنا عن حمامة مقابل صقر كما أراد كثيرون في إسرائيل والعالم أن يعتقدوا.
لكن حتى وان صحَ أن أبي مازن هو شخصية صلبة سياسيًا بشكل لا يقل عن عرفات، فان هنالك فروقات كثيرة بين الشخصين. رئيس السلطة الحالي لا يتمتع بهالة المحارب الثوري التي تمتع بها عرفات. هو لم يعش حصار لبنان ولا حصار المقاطعة ولم يفلت من عدد لا نهائي من محاولات الاغتيال التي بنت أسطورة عرفات. كما وان ابي مازن لا يتمتع بذات الإجماع داخل منظمة التحرير الفلسطينية، وداخل حركة فتح، وبالطبع ولا في الشارع الفلسطيني كما كان ياسر عرفات يتمتع بهم. ابو مازن لا يعتمر كوفية ليلوّح بها ولا يملك فيالق يستعرضها في الشارع، ولا يوجد لديه الدافع ليحضن ويعانق الناس. حتى الخطابات الملهبة للمشاعر، التي يضطر لإلقائها أحيانًا أقل بكثير مما كان يفعل سابقه، فهو يفضل اللقاءات العملية المفيدة أو استبدال ذلك بـ ‘الستاتوسات’ التي ينشرها أفراد طاقمه على صفحته الخاصة على الفيس بوك. هو يُفضّل المؤسسات على الفيالق، وهنا يكمن الاختلاف الكبير بين القائدين.
ليس هناك من شك – أبو مازن أضعف من عرفات بكل ما يتعلق بالشارع الفلسطيني وجمهور حركة فتح والتنظيمات الأخرى، ولكنه نجح حيث فشل عرفات: مأسسة السلطة الفلسطينية. يدرك الكثيرون في السلطة أن أبي مازن قد لا يكون محبوبًا مثل عرفات، وليس ودودًا مثل سابقه، ولا يطلق الشعارات الرنانة التي تلهب الجمهور – لكنه هو الذي نجح – وتحديدًا بعد مرحلة سيطرة حماس على القطاع، باستغلال قدرات وخبرات رئيس الحكومة السابق سلام فياض وبناء بنية تحتية إدارية وآليات حكم واضحة، تساعد السلطة الفلسطينية عند تغيير وضعها من سلطة إلى دولة، كان ذلك بموافقة إسرائيل أو بالتوجه بشكل احادي الجانب إلى المؤسسات الدولية. إن دعم أبي مازن لفياض أمام الانتقادات الحادة له من قبل قيادات فتح الذين ادعوا بأن فياض يُقصي أفراد الحركة من مؤسسات السلطة، لم يكن دعمًا مفهومًا ضمنًا، حتى وإن صحَ الاعتقاد بأن فياض جاء اختياره من قبل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي ولم يكن أمام أبي مازن أي خيار آخر.
وتلك المؤسسات ذاتها هي اليوم مصدر قوة أبي مازن. لا يملك أبو مازن الفيالق في مخيّمات اللاجئين كتلك التي كان يملكها سابقه ولكنه عرف تمامًا كيف يسيطر من خلال الموالين له على الوسائل الإعلامية التابعة للسلطة، هو لا يملك تابعين ميدانيين ومقاولي أصوات ولكن لديه قادة أجهزة مدنية وأمنية جاهزون لتنفيذ أوامره. يدرك أبو مازن تمامًا أنه لن يحظى بهالة الثوري، لكنه يؤسس لأن يكون أول رجل دولة فلسطيني في العصر الحالي. وجهة أبي مازن ليست نحو قادة الفصائل المنضوية داخل منظمة التحرير الفلسطينية ولا حتى قادة دول عدم الانحياز وقادة العالم الثالث الذين كان عرفات يتمتع بصحبتهم كرئيس لمنظمة التحرير ولاحقًا كرئيس للسلطة الفلسطينية. يتطلع أبو مازن إلى الغرب وإلى قادته، إلى العالم الحر وإنجازاته. مجرد التفكير فقط بعدد اجتماعات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أو اجتماعات اللجنة المركزية لحركة فتح التي عقدها أبو مازن أو بالأصح التي لم يعقدها في السنوات الأخيرة مقارنة بعدد اجتماعات الهيئات ذاتها التي قد اعتاد عرفات على عقدها في الشهر الواحد أو حتى أقل من ذلك.
يركّز أبو مازن على أصحاب رؤوس المال الفلسطينيين، باعتبارهم محرك للاقتصاد الفلسطيني ويستثمر فيهم كثيرًا. وهناك في السلطة من يقول أنه يستثمر فيهم أكثر من اللازم. يطلب بواسطتهم وبواسطة قادة أجهزة ومؤسسات فتح والسلطة زيادة قبضته على الشارع الفلسطيني، القبضة التي لم تأت بشكل تلقائي وطبيعي كما كانت حال سابقه. لا يحب المحيطون بأبي مازن تلك المقارنة الدائمة بينه وبين عرفات. يدعون، وهو ادعاء مبرر جدًا، أن الشخص هو حالة بحد ذاتها، وليس فقط مصدرًا للمقارنة مع عرفات. من سوء حظ أبي مازن، أنه أينما يتوجه، فإن الظروف التي قادته إلى الحكم، ستؤدي إلى، أن تكون تحركاته دائمًا مصدرًا للمقارنة مع عرفات. الظل، قلنا، يرفض أن يترك أبو مازن، ويبدو حتى أنه يفرض عليه بعض مواقفه.
قوي أم ضعيف، يشبه عرفات أو لا يشبهه، ربما يكون أبو مازن آخر قائد من جيل المؤسسين الذين بإمكانهم قيادة الشعب الفلسطيني إلى تسوية تاريخية مع إسرائيل. أبو مازن بإمكانه تمرير الاتفاقية كونه يسيطر على مؤسسات السلطة وحركة فتح. يؤمن أبو مازن بوجوب التوصل الى تسوية تاريخية، إيمانه هذا هو ما يجعله يتعرض لكل ذلك النقد داخل حركة فتح وخارجها، إنما الحقيقة هي أنه رغم كل ذلك النقد- ليس هناك من يمكنه التشكيك بمكانته الرائدة والقائدة أفضليته، ولا حتى أولئك الذين يعترضون على نهجه، لكن كونه القائد الأول المؤهل للتوصل لتسوية سياسية مع إسرائيل، فحول هذا الأمر هنالك توافق على هذا حتى لدى كثيرين داخل حركة حماس.