لم يدع الشجار الجماعي الذي حدث في أبو سنان الأسبوع الماضي مجالا للشكّ بأنّه ليس حدثًا معزولا بل هو صراع طائفي داخل البلدة. صراع يهدد نسيج العلاقات ويشير إلى بعض التحديات التي تقف أمام قادة المجتمع المحلي خصوصا، والمجتمع العربي بشكل عامّ بجميع لجانه.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتصادم فيها المسلمون والدروز في البلدات المصنفة بأنها مختلطة. فخلال العقد الأخير كان هناك بعض الأحداث القاسية التي انزلقت للعنف بل واستخدام السلاح وشهدت بأنّ هذا الشرخ حيّ وموجود. والسؤال: لماذا تتكرّر تلك الأحداث، في كلّ مرة بظروف مختلفة، وتؤدي إلى البحث عن كبش فداء. ترى الغالبية في ذلك فشلا للمؤسسة، التي تفرّق بين الوسطين في المكان الواحد، ولكن ينتقد كثيرون أيضًا المجتمع نفسه، وخصوصا قادته، الذين لا ينجحون في مواجهة الانفصال سواء من باب الخوف أو بسبب الانشغال بالصراعات السياسية الداخلية.
هذه الصراعات، في نهاية المطاف، ليست هي قضية المسلمين مع الدروز أو العكس. في المجتمع العربي كله أيضًا، بجميع مكوّناته، لا يمكن الحديث عن نسيج واحد وكيان جماعي يلتف حول هوية وطنية فلسطينية. على العكس: فحتى داخل الطائفة الوسط هناك عدد غير قليل من التيارات والآراء التي تضعف في نهاية المطاف النسيج الاجتماعي الموحد وتبرز المفرّق والمقسّم.
ويوضح الدكتور رباح حلبي، وهو محاضر للتربية في الجامعة العبرية وكلية أورانيم، بأنّ جذور الإشكالية في العلاقات بين الدروز والمسلمين تعود إلى العام 1956 وإلى قانون التجنيد الإلزامي لأبناء الطائفة الدرزية. “بالنسبة للسكان العرب، كان ذلك بمثابة اجتياز للخطّ الأحمر، ومنذ ذلك الحين والشرخ آخذ بالاتّساع”، كما قال. “صحيح أنّه يوجد داخل الطائفة الدرزية تيار قومي يعارض التجنيد بشدّة ويعتبر نفسه جزءًا لا يتجزأ من القومية العربية، ولكن على المستوى الرئيسي فإنّ معظم الشباب الدروز اليوم يختارون التجنيد، ليس فقط بدافع التماهي مع الدولة، كما يريد أن يرى جزء من ممثّلي الطائفة، وإنّما لأسباب اقتصادية بحتة والرغبة في دعم الأسرة، انطلاقا من التفكير بأنّ الخدمة العسكرية ستفتح أبوابا لكسب الرزق. في المجتمع العربي، هناك من يعتبر هذا القرار خيانة”.
وفقًا للدكتور حلبي، فإنّ المسؤولية في هذه المسألة ليست همّا حصريّا للدروز، ولكن أيضًا لمن يقود الخطّ القومي داخل المجتمع العربي في إسرائيل. هناك من “تبنى الانفصال بدلا من الاحتضان، ورأى في التجنيد بحدّ ذاته وصمة عار رغم أن صورة الوضع الراهن اليوم أكثر تعقيدا ورغم أنّ هناك من ينخرط في صفوف الجيش داخل الطائفة المسلمة والمسيحية طوعًا وليس بموجب القانون. يشير ذلك إلى تغييرات في المجتمع العربي كافّة، بينما تشجّع الدولة فحسب هذا الانقسام لأنّه من الأسهل السيطرة على طوائف وقبائل من أقلية متماسكة بهوية وطنية واحدة”.
لدى النظر إلى الوراء، فإنّ جزءًا غير قليل من الأحداث التي تطوّرت إلى اشتباكات في الشارع وصدامات على خلفية دينية قد بدأ بجدالات بين طلاب داخل أسواء المدارس أو في شبكة الإنترنت. وسبب ذلك، كما يشرح الدكتور أيمن إغبارية، محاضر في التربية بجامعة حيفا، هو الفصل أيضًا في النظام التعليمي. هناك أجنحة منفصلة للتعليم العربي والتعليم الدرزي وهي تدار كآليّتين منفصلتين. “يؤثّر هذا الفصل أيضًا على تشكيل هوية الطلاب”، كما يؤكّد الدكتور إغبارية ويستمرّ قائلا: “ينظر كل طالب إلى الآخر باعتباره مختلفا رغم أنّهم يتحدّثون نفس اللغة ويعيشون في نفس البلدة. يقع جزء كبير من المسؤولية على المؤسسة، والتي تعتمد هذه السياسة وتعمل على الفصل، ولكن أيضًا داخل المجتمع العربي نفسه لم يتم التعامل مطلقا مع إمكانية التعليم متعدد الأديان والذي سيساعد على فهم الآخر وقبول الآخر”.
يضيف الدكتور إغبارية أنّ “التربية الدينية في المدارس غدت لتصبح مسألة خاصة برجال الدين. وهذا لا يعني أنّه لا ينبغي تعزيز الهوية الوطنية وإنما العكس، فالتربية الدينية الصحيحة تخدم هذا الهدف، ولكن مع الأسف الشديد يخشى المجتمع العربي معالجة ذلك. ولذلك ينتقل الجدل الديني إلى الشارع. الشارع عنيف وليس مثقّفا وتتم ترجمة الأشياء إلى اشتباكات كما رأينا في أبو سنان”.
وبالإضافة إلى قانون التجنيد وآلية الفصل في النظام التعليمي باعتبارها دوافع للانفصال داخل المجتمع العربي، هناك من يرى الوضع الحالي نتيجة لظروف خارجية. يعرّف عضو الكنيست السابق، أيوب قرا (الليكود)، وهو ابن الطائفة الدرزية، نفسه بأنّه إسرائيلي بكل معنى الكلمة ويرى في أحداث أبو سنان تأثّرا بأحداث الدول العربيّة المجاورة، بما في ذلك سوريا. “لا يجوز كنس الأشياء تحت السطح. جميعنا يرى الأمور ويعرف بأنّ التصرفات – بما في ذلك تصرفات المسلمين في أبو سنان – متأثّرة بما يحدث حولها. إنّ الغالبية الساحقة للمجتمع العربي في البلاد وأيضا داخل الطائفة الدرزية ترغب بالعيش في سلام وكسب العيش الكريم، ولكن هناك من يرى بالولاء الذي تظهره الطائفة تجاه دولة إسرائيل سببا للصراع والعداء. لا شكّ بأنّ ذلك هو بتأثير حفنة من المحرّضين. أعتقد أن الدروز قد فعلوا الأمر الصحيح حين ارتبطوا بالدولة وخدمتها”.
بحسب كلامه: “أنا مقتنع أكثر فأكثر على خلفية ما نراه حولنا وكيف يتم التعامل مع الأقليات، بأنّ الحروب في هذه المنطقة هي حروب دينية وطائفية بالفعل، والتي ينظر المشاركون فيها إلى كل من ليس مسلما باعتباره عدوّا، وهذا يتقاطر إلى أراضي السلطة الفلسطينية وأيضا إلى إسرائيل”.
من ناحية أخرى، ينظر عضو الكنيست السابق سعيد نفاع (التجمع الوطني الديمقراطي)، وهو أيضًا ابن الطائفة الدرزية، إلى الدروز باعتبارهم جزءًا من الأمة العربية. “لا شكّ بأنّ الخطاب الديني قد ازداد في العقدين الماضيين. كلّ خطاب طائفي بخصوص ذلك يؤدي إلى التمزّق والانفصال وهذا ما تريده المؤسسة وتفضّله حتى قبل عام 48. وبالطبع فقد قامت بتعزيز ذلك بعد قيام الدولة، بدءًا من قانون التجنيد ووصولا إلى الفصل في التعليم وفي السلطات المحلية. ومن ثمّ فإنّ الخلاص لن يأتي من المؤسسة أبدا، وإنما من بين ظهرانينا. ولذلك فأنا أطرح دوما السؤال: هل ما نفعله جيّد لأنفسنا، والإجابة للأسف هي لا. إنّ الوحدة القومية وليس الدينية هي المفتاح للحفاظ على نسيج حياتنا كمجتمع عربي فلسطيني داخل إسرائيل، وأنّ كلّ واحد منا يصلّي وفقا لدينه واعتقاده”. حُكم على نفاع في الواقع بالسجن لمدّة عام في شهر أيلول الماضي بعد أن أدين بزيارة دولة عدوّ والاتصال بعميل أجنبي عقب زيارته لسوريا حيث التقى هناك بنائب الأمين العام للجبهة الشعبية.
ويتفق الدكتور أسعد غانم، وهو محاضر للعلوم السياسية في جامعة حيفا، مع كلام نفاع، وهو يدرس التحولات في الهوية الفلسطينية في العقدين الماضيين. “في سنوات الستينيات والسبعينيات بدأ بناء الهوية الوطنية الفلسطينية مع صعود منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن في الـ 20 سنة الأخيرة مرّ المجتمع العربي – وبنظري فالدروز هم جزء لا يتجزأ منه – من خلال عمليات مختلفة: تراجع القيادة الفلسطينية التاريخية، إخراج عرب إسرائيل من الحركة الوطنية الفلسطينية إلى جانب تآكل الرموز الاجتماعية، وظهور قيادة جديدة، أكثر ما بعد حداثية، حيث تعمل أمام الإعلام وبشكل أقل أمام الجمهور والمجتمع”.
بحسب كلامه: “وهذا يعني أنّ التحديث الذي مرّ به المجتمع العربي في هذا السياق لم يكن على ما يرام، ولذلك فقد بدأنا بمشاهدة الانقسام إلى طوائف داخل البلدات المختلطة، قبائل وعشائر داخل كل مجتمع سواء كان مسلما أم درزيّا أم مسيحيّا. وينعكس هذا في الأحداث كما في أبو سنان، حيث يصبح كلّ جدال زنادًا لاشتعال شجار. المشكلة في نظري هي أنّ القيادة قد قبلت هذا التقسيم؛ وإلا فلماذا تقبل لجنة المتابعة ولجنة رؤساء السلطات المحلية حقيقة وجود منتدى مستقلّ للسلطات المحلية الدرزية ولا يتم دعوة ممثّلين عن الطائفة إلى اجتماعات لجنة المتابعة؟”.
تم نشر المقال لأول مرة على موقع صحيفة هآرتس