يعكس نجاح تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) في السيطرة على مساحة كبيرة وعلى مدن رئيسية في شمال غرب العراق، فشل الأطراف الأخرى أيضًا. إنّه يعكس فشل حكومة نوري المالكي الشيعي، الذي ظهر كحاكم مستبدّ، فاسد وغير فعال، والذي قبل كلّ شيء لم يجلب مصالحة حقيقية مع السنة واستمرّ في عزلهم ودفعهم إلى الزاوية. ويعكس أيضًّا فشل الولايات المتحدة، التي أسّست في العراق قوات أمنية كبيرة، والتي تضمّنت مئات الآلاف من الجنود ورجال الشرطة، والذين لم يكونوا في الحقيقة قادرين على الدفاع عن العراق أمام عدوّ خارجي، ولكن كان من المفترض أن يفرضوا فيها القانون والنظام وتعزيز الاستقرار. في الواقع، فقد ظهر أنّ هذه القوى الأمنية جسم غير متماسك، ويفتقد العزم، والقيادة والكفاءة، ولم تكن قادرة على مواجهة هجمات الميليشيات السنّية، الأصغر منها بكثير، وإدارة القتال في المناطق الحضرية، وخصوصًا في المناطق السنّية.
إنّ نجاح داعش يعكس أيضًا فشل إيران. ففي السنوات الماضية، أصبحت إيران الجهة الخارجية الأهم والأكثر نفوذًا في العراق، وخصوصًا بعد أن خرجت القوات الأمريكية منها في نهاية عام 2011. كان هدف إيران بناء العراق كدولة مستقرة وموحّدة، ضعيفة وغير مهدِّدة من الناحية الأمنية، متعلّقة بإيران وتُقاد من قبل الأغلبية الشيعية المرتبطة بإيران. اعتمدت إيران لتحقيق هذا الهدف على روابطها مع الجهات الشيعية الكثيرة في العراق، ومن ضمنها ميليشيات مسلّحة، أحزاب، قادة سياسيين، رجال دين وهيئات عامة- وذلك بواسطة إقامة علاقات من خلال تقديم مساعدات عسكرية ومالية. كانت لهذا النفوذ حدود، بشكل أساسيّ بسبب اهتمام الجهات الشيعية بألا تكون متعلّقة أكثر من اللازم بإيران، وتحفّظ السنة منها. ولكن عمومًا، كان التدخّل الإيراني في العراق غير مسبوق في العلاقات بين البلدين، ونشأ بسبب ضعف العراق والوصول التاريخي للشيعة إلى السلطة فيه.
كان هدف إيران بناء العراق كدولة مستقرة وموحّدة، ضعيفة وغير مهدِّدة من الناحية الأمنية، متعلّقة بإيران وتُقاد من قبل الأغلبية الشيعية المرتبطة بإيران
إنّ سيطرة تنظيم داعش على أجزاء من أراضي العراق يشكّل سببًا للقلق الكبير في نظر إيران، ويعتبر بالنسبة لها جزءًا من الصراع السنّي الشيعي. وبشكل عام، فإنّ عدم الاستقرار خارج حدود إيران ليس أمرًا مرغوبًا به من جهة إيران، وأيضًا لأنّه قد يتسرّب إلى مجالها ويضرّ باستقرارها، لكونها دولة أقليّات. يضرّ نجاح التنظيم السنّي بالمعسكر الشيعي، والذي يرتكز عليه النفوذ الإيراني في العراق، وبشكل أساسي بالميليشيات الشيعية المسلّحة التي تدعم إيران جزء كبير منها.
تعتبر البؤرة الجهادية في سوريا مكوّنًا مهمّا في مقاومة نظام الأسد، حليف إيران، وقد أجبرتها على التدخّل في سوريا وعلى تقديم المساعدة العسكرية الكبيرة للنظام، وهي خطوة أثارت الانتقادات ضدّها في دول مختلفة. إنّ التدهور الحاصل في العراق، والذي يغذّي كذلك التهديد ضدّ نظام الأسد، قد يُجبر النظام الإيراني بالتدخّل والتورّط في القتال، حتى لو كان محدودًا، في حدود جارته العراق من جهة الغرب. على المدى البعيد، إذًا أدّى التدهور في العراق إلى انفصالها لثلاث دول، فقد يكون لذلك تأثير سلبي على إيران، وخصوصًا على ضوء المكوّن الكردي المتواجد ضمن السكان أيضًا.
وعلى ضوء القلق من استمرار التدهور في العراق، فقد أعلن قادة إيران بأنّهم سيساعدون الحكومة العراقية، في حال طلبت المساعدة، وأنّهم سيدافعون عن الأماكن المقدّسة للشيعة في العراق. وقد أظهرت التقارير القادمة من العراق، بأنّ هناك كتيبتان من قوى “القدس” التابعة للحرس الثوري الإيراني قد دخلتا للعراق، من أجل المساهمة في الدفاع عن بغداد والمدن المقدّسة، النجف وكربلاء، وأنّ قائد الحرس الثوري وصل إلى العراق للتنسيق الأمني مع القوى الأمنية والميليشيات الشيعية هناك. وقد ذكر مسؤولون أمنيّون إيرانيون أنّ إيران تدرس إمكانية إرسال قوات مساعدة أكثر للعراق وأنّها قد عزّزت من استعدادها بالقرب من الحدود مع العراق، وأعلنت أنّها ستعرقل كلّ قوة تقترب لمسافة 100 كيلومتر من الحدود.
إنّ سيطرة تنظيم داعش على أجزاء من أراضي العراق يشكّل سببًا للقلق الكبير في نظر إيران، ويعتبر بالنسبة لها جزءًا من الصراع السنّي الشيعي
إنّ إرسال قوات محدودة من الحرس الثوري إلى العراق هو خيار مرجّح لعدّة أسباب: فالبؤرة الجهادية في العراق تهدّد إيران أيضًا؛ وإيران ملزمة بالدفاع عن الأماكن المقدّسة ومساعدة الميليشيات الشيعية في العراق؛ قوة “القدس” معدّة أيضًا لمهمّات كهذه، ونقل القوات من إيران للعراق أسهل من نقلها إلى سوريا؛ بخلاف المساعدة العسكرية الإيرانية لسوريا، فلن تقف إيران أمام الانتقادات الدولية لمساعدتها للعراق، بل على العكس، سيكون هناك من يرحّب بذلك؛ وإلى جانب المخاطر على إيران، فهناك أيضًا احتمال – عقب تهديد المعسكر الشيعي واحتياجه للدعم الخارجي – أن يزيد التدخّل في العراق من النفوذ الإيراني فيها.
وفي هذا السياق تُطرح إمكانية التعاوُن بين الولايات المتحدة وإيران في القضية الرئيسية. انطلاقًا من المخاوف تجاه التهديد الذي نشأ في العراق، فتكشف الإدارة الأمريكية عن اهتمامها بالتعاون مع إيران، وإنْ كان في ظروف معيّنة ومن خلال الشكّ باحتمال تحقّق ذلك. قال وزير الخارجية، كيري، إنّ الإدارة الأمريكية مستعدة لمناقشة التعاوُن مع إيران بشأن مسألة العراق ولا تستبعد أيّ شيء، طالما أنّ الحديث عن خطوة بنّاءة تساعد في استقرار العراق. وكذلك يؤيّد وزير الدفاع، هيغل، فحص هذا الخيار. وقد أشار الرئيس أوباما إلى أنّه بإمكان إيران أخذ دور بنّاء – ولكن أيضًا دور هدّام – في العراق. في الجانب الإيراني، فإنّ التصريحات ليست موحّدة في هذه المسألة، وتعكس كما يبدو خلافات في القيادة بشأنها. قال الرئيس روحاني إنّ إيران مستعدّة لدراسة التعاوُن مع الولايات المتحدة، فيما لو اتّخذت الأخيرة خطوات ضدّ التنظيمات الإرهابية في العراق. ولكن قال أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، ووزير الدفاع السابق، علي شمخاني، إنّ التعاون بين الولايات المتحدة وإيران في الشأن العراقي ليس أمرًا واقعيّا، ويرجّح نائب وزير الخارجية أنّه لا حاجة لمحادثات مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران في الشأن العراقي، لأنّ العراق قادرة على الاهتمام بشؤونها.
من الصعب الافتراض أن يكون هناك تعاوُن حقيقي متوقع بينهما في المجال العسكري، ربّما باستثناء تبادل المعلومات الاستخباراتية
على أيّ شيء يمكن أن يرتكز التعاون بين الولايات المتحدة وإيران في الشأن العراقي، في حال تطوّر مثل هذا التعاون؟ من الصعب الافتراض أن يكون هناك تعاوُن حقيقي متوقع بينهما في المجال العسكري، ربّما باستثناء تبادل المعلومات الاستخباراتية. فيما لو اتخذت الولايات المتحدة خطوات عسكرية في العراق – وخصوصًا هجمات جوية – فإنّها لن تحتاج إلى إيران لتنفيذها، وإيران أيضًا لن تكون راغبة بذلك. وقد نفى المتحدّث الرسمي باسم البيت الأبيض احتمال التعاوُن العسكري مع إيران في العراق، وأكّد على أنّ الولايات المتحدة غير راغبة بتنسيق العمل العسكري مع إيران. وأيضًا فإنّ إرسال مساعدات عسكرية للحكومة العراقية؛ كالاستخبارات، السلاح، الدعم اللوجستي، المستشارين والإرشاد؛ لا يحتاج إلى تعاوُن مع إيران. ستكون الإدارة الأمريكية معنيّة أكثر بالتعاون السياسي، لا سيّما استغلال النفوذ الإيراني في المعسكر الشيعي، من أجل تغيير رئيس الحكومة العراقية المالكي، أو على الأقل دفعه لعمل مصالحة حقيقية مع المعسكر السنّي، وذلك من أجل دقّ إسفين بين أهل السنة وداعش وإضعاف التنظيم.
ستقف عراقيل كثيرة أمام تعاون كهذا. فهناك بين الولايات المتحدة وإيران شكوك عميقة. لا يوجد بينهما تقاليد للتعاون، فيما عدا مجالات محدودة قبيل العملية العسكرية الأمريكية في أفغانستان. والأهمّ من ذلك، فهناك مصلحة مشتركة لدى الدولتين في إيقاف البؤرة الجهادية في العراق والقضاء عليها. ولكن فيما عدا ذلك تختلف أهدافهما، بل تتناقض. وتسعى الولايات المتحدة إلى بناء نظام ديمقراطي في العراق، يكون مرتبطا بها، ويقلّص من النفوذ الإيراني ويطمئن المعسكر السنّي في العراق. بينما تسعى إيران إلى توسيع نفوذها في العراق، وتعزيز المعسكر الشيعي فيها، وفصل العراق عن الولايات المتحدة. إنّ تزايد التدخّل الإيراني في العراق، حتى ولو بالتنسيق مع الولايات المتحدة – خصوصًا إذا تضمّن ذلك إرسال قوات ومساعدات عسكرية – قد يزيد من الاضطرابات في المعسكر السنّي. لهذا السبب، وفقًا للتقارير من العراق، يعارض المالكي التدخّل العسكري الإيراني في بلاده. إنّ تعاونًا كهذا من المتوقّع أن يُقلق أيضًا السعودية ودول الخليج. وفي النهاية، ستطالب إيران بالحصول على مقابل للتعاون مع الولايات المتحدة، بشكل أساسيّ في تحقيق تسوية تكون مقبولة عليها في المسألة النووية.
أظهرت تجربة السنوات الأخيرة، أنّ لإيران ميزة كبيرة على الولايات المتحدة في بناء نفوذها في العراق، وذلك على ضوء علاقاتها مع المعسكر الشيعي الذي يشكّل 60% من مجموع السكّان، وبسبب قربها الجغرافي من العراق. وقد برزت هذه الميزة أكثر بعد خروج القوات الأمريكية من العراق. في هذا الصدد، فإنّ المحاولة الأمريكية لإنشاء تعاوُن مع إيران في العراق – حيث إنّ أهدافهما مضادّة – قد تكون خاطئة.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع معهد أبحاث الأمن القومي INSS