واقع الحياة الجديد في إسرائيل في السنوات الأخيرة: أخبرني صديق إسرائيلي – يهودي عزيز قبل أسبوعين بأنّه مرض قبل مدة قصيرة بالأنفلونزا في ذروة العاصفة التي ضربت إسرائيل، واضطر إلى تلقّي علاجًا طبيًّا مكثّفًا في وقت متأخر من الليل. سافر مع زوجته إلى المستشفى وذُهل أن جميع الأطبّاء في قسم الطوارئ كانوا من العرب. بعد عناية فائقة طُلب من صديقي الذهاب للصيدلية لشراء الأدوية التي عُرضت عليه في الوصفة الطبية. “فوجئت في الصيدلية أيضًا بأنّ كلا الصيدليّين كانوا عربا. قبل عدة سنوات، كان الإسرائيلي – اليهودي مثلي الذي لم يتجوّل في البلدات العربية، لا يرى عربا إلا كعمّال بناء. إنّه تطوّر يحظى بالترحيب أن نرى الكثير جدّا من العرب يعملون في مجال الطبّ”.
الوضع اليوم مختلف تماما. بات الأمر حقيقة مثبتة. أي مواطن إسرائيلي يدخل إلى الصيدلية، سيجد هناك دائما تقريبا صيدليّا عربيا؛ وإذا اضطُرّ للذهاب إلى غرفة الطوارئ، فمن المحتمل جدّا أن يقوم بعلاجه طبيب عربي.
35% من مجموع الأطبّاء في إسرائيل اليوم هم من العرب بالإضافة إلى 65% من الصيادلة
قد يتصور المرء أنّ غالبية الشباب العرب، في الوقت الذي يتم فيه تسجيلهم للدراسات الأكاديمية، يقومون بذلك من خلال كلية العلوم الإنسانية ويختارون دراسة العربية، دراسات الشرق الأوسط وتاريخ الشرق الأوسط. ولكن تبيّن أنّ نحو 26% من طلاب التخنيون في حيفا هم من العرب الإسرائيليين، وهي نسبة أعلى من حصّتهم من السكان (استطلاع أجري عام 2012). 35% من مجموع الأطبّاء في إسرائيل اليوم هم من العرب بالإضافة إلى 65% من الصيادلة.
وهناك ظاهرة ليست أقلّ إثارة للاهتمام في مجال الأعمال التجارية. ربّما بسبب صعوبة القبول، الاندماج، التقدّم والنجاح في عالم التجارة الإسرائيلي – اليهودي، يتحوّل الكثير من العرب إلى أصحاب مشاريع. يقف أولئك اليوم على رأس بعض المصانع وفي مجالات مختلفة ومتنوّعة، حيث يوظِّف بعضهم مئات بل وآلاف العمّال، بما في ذلك عدد غير قليل من اليهود.
ومع ذلك، فإنّ مشكلات اللغة، والامتحانات ما قبل الجامعية وتقييدات كثيرة أخرى تُجبر الكثير من الشبّان والفتيات على الدراسة في مؤسّسات أكاديميّة خارج إسرائيل وخصوصا في مجالات الطبّ والصيدلة. هناك اليوم ما يُقارب عشرة آلاف من الشبّان الذين يدرسون في الأردن، بالإضافة إلى الكثيرين غيرهم في دول مجاورة أخرى.
إنّ العيش كأقلية مغتربة في إسرائيل تضطرّهم على التقدّم بقواهم الذاتية. إنّها إمكانات هائلة يمكن لإسرائيل أن تستفيد منها. ومن أجل ذلك يجب الاعتراف بالواقع.
“أرباب العمل اليهود لا يفهمون أي موظّفين ممتازين سيخسرون”
أكبر شبكة صيدليّات وأشهرها في إسرائيل هي كما يبدو شبكة “Super Pharm”. وقد تكون أيضًا هي أكثر شبكة تبيع بالتجزئة وذات شعبية في إسرائيل. إنّها تتمتّع بنموّ استثنائي، وبسمعة استثنائية بين المستهلكين. كل هذا لا يتعارض مع حقيقة أنّ سوبر – فارم هي أكبر شركة خاصة في إسرائيل موظّفة للأكاديميين العرب. عدد الصيادلة العرب الذين يعملون بها هو 800.
إنّ الدمج بين شبكة ناجحة وشعبية، وفي نفس الوقت شركة توظّف العرب في مناصب عليا وبأعداد كبيرة، هو إنجاز استثنائي. والذي يوفّر هذا الإنجاز هو حقيقة أنّ معظم الموظّفين العرب في الشبكة يعملون في وظائف خدمة موضع ثقة؛ حيث إنّ الصيادلة العرب على اتصال يومي بالزبائن اليهود، باعتبارهم من يقدّمون المشورة للزبائن عن أية أدوية يشترونها. في أحد الإعلانات التلفزيونية طلب مديرو الشبكة إشراك صيدلي عربي مؤهل. في الإعلان (أدناه)، يسأل الوالد أي دواء يجب شراؤه للطفل المريض، يقدّم الصيدلي المشورة له، ويثق الوالد بالمشورة التي قُدّمت له. في هذه الحالة ، الوالد يهودي، والصيدلي عربي، وكلا الطرفين يتقبل الموقف بشكل طبيعي تماما. وقد تحدّث أصحاب الشبكة فعلا في عدة مؤتمرات تجارية واقتصادية واعترفوا بأنّ الشركات اليهودية لا تفهم أيّ موظّفين طموحين ستخسر إذا لم توظّف الشبّان العرب.
شاهدوا الإعلان:
وتثير هذه الطبيعية الأسئلة فقط بسبب حقيقة أنّ سوبر – فارم هو حالة استثنائية. ليست هناك أية شركات يهودية أخرى تقريبا توظّف الأكاديميين العرب بنطاقات واسعة، وبالتأكيد ليس في مناصب موضع ثقة. اعتاد اليهودي في إسرائيل على مصادفة العرب الإسرائيليين كموظّفين في وظائف دنيا فقط؛ كنوادل في مطعم أو كعمّال ترميم. يجد العرب المتعلّمون غالبا صعوبة في العثور على عمل في الشركات اليهودية، ويُضطرّ معظمهم إلى التسوية مع عروض الوظائف الأصغر والقائمة في الوسط العربي.
اكتشف الكثير من الشبان العرب النقص في مجالات علم الأدوية
من قبيل الصدفة، كان الوسط العربي هو أول من اكتشف النقص في الصيادلة في إسرائيل. عام 2009، رخّصت وزارة الصحة في إسرائيل 500 صيدلي إسرائيلي؛ من بينهم 390 عربيّ. أنهى 300 منهم الدراسة في جامعات عمّان، بعد أن رفضت الجامعات الإسرائيلية زيادة عدد الأماكن الشاغرة لدراسة الصيدلة، وتركت المجال مفتوحا للأردن. كانت النتيجة هي عدد أقل من الطلاب الذين يدرسون في إسرائيل، وعدد أكبر من الصيادلة الذين تأهّلوا في جامعات عربية.
سواء في الجامعات الإسرائيلية أو في عمّان، دون شكّ، فقد سيطر العرب الإسرائيليون على مهنة الصيدلة في إسرائيل. إنّها حركة جماهيرية متأّثّرة كما يبدو بسبب رئيسي واحد: فهي مهنة محترمة، ويجدونه فيها عملا لهم.
ويتجنّب العرب مجالات أكاديمية مطلوبة أخرى، مثل هندسة الكمبيوتر؛ بشكل أساسيّ لأنّهم اكتشفوا أنّ لحملة تلك الألقاب يصعب العمل في هذه المهنة. قلّما ما تُوظّف شركات التكنولوجيا الفائقة العرب، ولذلك لا يدرس العرب هندسة الكمبيوتر. في حالة الصيدلة، فقد كانت العملية التي جرت عكسية تماما: عندما اكتشف العرب أنّ هذا هو المجال الذي يجدون فيه عروض للعمل، بدأوا بالتدفّق على المهنة بشكل جماعي.
وما زال هناك من يحاول استبعاد الشبّان العرب من سوق العمل
إلى جانب هذه التوجّهات في تشجيع الشبّان على دراسة مجالات علم الأدوية والطبّ، تعزّزت توجّهات عنصرية وكراهية، وفي السنوات الأخيرة، هناك العديد من الأنشطة لاستبعاد الطلاب العرب من مجالات العمل التي يعتبر الراتب فيها مرتفعًا نسبيًّا. نحن نشهد، للمرة الأولى، محاولة مُمَنهجة وغير مسبوقة لجهات يمينية متطرّفة تهدف إلى إقالة الموظّفين العرب. وكلّما كان العربي في منصب أرفع، ازدادت المطالب. بالنسبة لهذه المنظّمات والعصابات فلا يمكن احتمال العربي في منصب كبير: إنّ حقيقة أنّ اليهودي بحاجة إلى العربي (كطبيب، كصيدلي، كمندوب خدمات) لا تُطاق بالنسبة لبعضهم. في فترة الحرب الأخيرة، في صيف عام 2014، بين إسرائيل وحماس في غزة، كان هناك بعض الحالات لمواطنين يهود رفضوا الحصول على خدمة من طبيب، جرّاح أو صيدلي عربي، زعمًا بأنّهم يخشون على مصيرهم. لحسن حظّنا أنّ تلك الحالات أيضا قد وصلت إلى الإعلام وفوجئ الكثيرون في إسرائيل من السلوك العنصري لهؤلاء المواطنين.
المستقبل في معطف أبيض
وبالفعل فإنّ المستقبل يبدو أبيض: كشفت دراسة نُشرت عام 2012، أنّ 28% من طلاب المدارس الثانوية الراغبين بالمواصلة نحو الدراسة الأكاديمية يريدون دراسة الطبّ. 27% آخرين يرغبون بدراسة مهن الطبّ المساعدة و 28% يرغبون بدراسة مهن متعلّقة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية. المعطى المدهش هو أنّه بخلاف الماضي، يتوجّه الطلاب العرب أكثر فأكثر للمجال التكنولوجي: قال 10% من المستطلَعة آراؤهم إنّهم سيدرسون الهندسة.
وقد اختبرت الدراسة، التي أعدّها الدكتور خالد أبو عصبة ومحمد أبو نصرة، 700 طالب عربي في المدارس الثانوية من الطبقة الاجتماعية والاقتصادية العالية ومن ذوي التوجّه للدراسات العليا.
كشفت الدراسة أنّ الغالبية الساحقة للطلاب (94.7%) يرغبون بالمواصلة نحو دراستهم الأكاديمية. في أوساط الطالبات هناك نسبة أعلى لمن يرغبن بالمواصلة نحو الدراسة الأكاديمية؛ 96.2% من الطالبات مقابل 91.5% من الطلاب. تمثّل هذه النتائج استمرار الاتجاه الذي بدأ في منتصف التسعينيات لارتفاع نسبة النساء العربيات في المؤسسات الأكاديمية. ويشير البحث أيضًا إلى أنّ التعليم يقع في مكانة رئيسية في نظر الآباء والأمّهات؛ 90.1% من الآباء والأمّهات يشجّعون “بدرجة عالية” أبناءهم على مواصلة التعليم العالي.