إنّ السياسة الفلسطينية آخذة بالتدهور أيضًا بشكل لا يقل عن تدهور السياسة الإسرائيلية. تدريجيا، أصبحت النخب التي شكلت القضية الفلسطينية وقادتها، وشكلت الوعي القومي أيضا، تفقد مكانتها ويتم تهميشها. في السنوات الأخيرة، وبأمر من أبو مازن، تم تبديل مئات الأشخاص في مناصب رئيسية في مختلف مؤسسات السلطة الفلسطينية، في منظمة التحرير الفلسطينية وفتح. هناك تبادل في الأدوار في منظمات المعارضة أيضًا، يسود إنهاك وضعف في صفوفها، وأيضا حماس، التي تسيطر بقبضة حديدية على قطاع غزة، لا تنجح في بعث الحياة في القضية الفلسطينية.
أحد الأسباب لذلك هو السياسة الإسرائيلية التي نجحت في مناورة الفلسطينيين إلى حالة من الجمود. قادت الحكومات الإسرائيلية – وليست حكومة نتنياهو فحسب – الخيار الفلسطيني في المفاوضات إلى طريق مسدود من خلال تعميق الاحتلال. وفشل الفلسطينيون، من جانبهم، في إعداد بدائل لفشل المفاوضات. لقد انتظروا إقامة حكومات أكثر راحة في إسرائيل – والتي لم تقم وهناك شك إذا كانت ستقوم في المستقبَل المنظور – وما زالوا يراهنون على السياسة الإسرائيلية وعلى تغيير الحكومة في إسرائيل.
إنّ الديناميكية الفلسطينية الداخلية هي سبب آخر لهذا التراجع. فالصراع المستمر بين المنظمات المختلفة وداخلها أضعف قدرتها على القيادة، وتراجعت النسخة الفلسطينية للإسلام السياسي ووصلت إلى طريق مسدود أمام إسرائيل، في العالم العربي وفي المجتمع الفلسطيني في الداخل. لم يُؤدِ تحصّن حماس والنزعة العسكرية في المجتمع الفلسطيني إلى رفع الحصار عن غزة وبالتأكيد ليس إلى تحرر فلسطين بأكملها.
عمّق المجال الفكري والثقافي في العالم العربي من التراجع الفلسطيني أكثر، وخفت بريق القضية الفلسطينية كبوصلة قومية عربية. مع نشوب الثورات العربية، نجحت الأحداث في سرق الأضواء في المنطقة؛ أصبح القصف الإسرائيلي على غزة ضئيلا بل ومهملا مقارنة بحجم القتل والدمار في سوريا، وتفككت دول كاملة مثل سوريا، اليمن، وليبيا وأصبحت تقف في مركز الاهتمام العربي والعالمي. بكلمات أخرى، انتقل مركز ثقل “الأمة العربية” خارج فلسطين إلى المنطقة العربية، وأخلى الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني – العربي مكانه للصراع الشرس بين السنة والشيعة وللصراعات الداخلية الدامية.
في المنطقة العربية، تزايدت الدوائر التي تعتبر القضية الفلسطينية شماعة علّقت عليها الأنظمة الاستبدادية ممارساتها القمعية. لا تشكك هذه الدوائر بعدالة القضية الفلسطينية وإنما ببساطة سئمت منها وتفهم الدوائر الفلسطينية جيّدا هذه الديناميكية.
إنّ فشل السياسة الإسرائيلية في تقديم حلّ قابل للتطبيق للقضية الفلسطينية، والمجموعة المتنوعة من الأزمات التي تعاني منها السياسة الفلسطينية، قد يؤدي إلى تصعيد غير مخطط له (وهو غير مرغوب فيه بالنسبة للفلسطينيين) من الجانب الفلسطيني. لا ترغب حماس أيضًا في خوض معركة، رغم أن هناك عناصر فيها تعتقد، أنّها تمكّنت، على الأقل، من إيجاد توازن ردع ضدّ إسرائيل.
ومع ذلك، يمكن للأزمة أن تحفّز الدوائر في كلا الجانبين للبحث عن مخرج من هذه الورطة. في الجانب الفلسطيني، على سبيل المثال، يعمل العديد من الدوائر من جميع التيارات، بمساعدة مثقفين وأكاديميين ومنظمات مجتمع مدني، على استراتيجية تسعى إلى استغلال الأزمة الداخلية من أجل تمدين القضية الفلسطينية وتدويلها. تمارس هذه الدوائر ضغوطا على أبو مازن، على سبيل المثال، أن يعمل على إكمال العملية السياسية في الأمم المتحدة بحزم وبسرعة. في نظرها فإنّ هذا هو بمثابة مبادرة وتحويل سياسة الضحية إلى أفعال وإجراءات على أرض الواقع، والتي ستعوّض الشعب الفلسطيني عن عقود من المعاناة.
تناقش هذه الدوائر بعمق وبجهد أيضًا القضية اليهودية، بطرح أفكار سياسية لا تستند إلى التقسيم إلى دولتين، وتفكر في حياة مشتركة مؤسسة على المصالحة. إنه تطور مثير للاهتمام ومهم، ومن شأنه أن يلتقي بمبادرات إسرائيلية مشابهة في الطريق.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي