كانت السياسة الخارجية للسعودية دائما ولا تزال مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتطورات الجيوسياسية – الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا. على هذه الخلفية يُطرح السؤال: ما هو الخط السعودي الحالي، وما هي العلاقة بين هذا الخط وبين توقّعاتنا من هذه الدولة.
تتغيّر السياسة الخارجية للسعودية من حين إلى آخر وهي “تتحرّك” بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. إن الفروقات بين الاتجاهات المختلفة في السياسة الخارجية لديها متجذّرة في متغيّرات تاريخية، جيوسياسية، اجتماعية وثقافية. رغم الفارق النوعي الهائل بين النظامين الدوليين: ذلك الذي كان في فترة الحرب الباردة وبين النظام الحالي، يحاول قادة السعودية العثور على توازن بين قدرتهم على وضع خطّ مستقلّ كدولة ذات سيادة، وبين تأثير الضغوط التي تُمارس من كلتا الكتلتين، واللتين تشكلتا خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة، وهي ضغوط تهدف إلى ضمان الحفاظ على مصالحهما القومية في الشرق الأوسط.
في فترة الحرب الباردة، منحت الولايات المتحدة مساعدة عسكرية واقتصادية للسعوديين، لاحتياجات تطوير وتنمية اقتصادهم وتطوير علاقات دبلوماسيّة مع حلف شمال الأطلسي. كان هدف هذه السياسة تجاه السعودية هو تكبيلها بتحالف عسكري، من أجل الحدّ من اعتماد الأخيرة على الكتلة الشرقية
الحرب الباردة
في فترة الحرب الباردة، بشكل تقليدي، منحت الولايات المتحدة مساعدة عسكرية واقتصادية للسعوديين، لاحتياجات تطوير وتنمية اقتصادهم، ولرفع مستوى حياة السكان وتطوير علاقات دبلوماسيّة مع حلف شمال الأطلسي. كان هدف السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السعودية هو تكبيلها بتحالف عسكري، من أجل الحدّ من اعتماد الأخيرة على الكتلة الشرقية. تمت صياغة هذه السياسة في أعقاب الموقف الثابت للسعوديين في الوقوف إلى جانب واشنطن في الحرب الباردة. ومن الجدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية تلقّت من الولايات المتحدة مساعدات أقلّ من دول أخرى في الشرق الأوسط، من بينها الأردن، مصر وإسرائيل. لقد حصلت السعودية على مساعدة ضئيلة نسبيًّا. وذلك لأنّ السعودية هي دولة وفرة عظمى بسبب كنوز النفط الموجودة في أراضيها. تركّزت المساعدات الأمريكية في تقديم الاستشارة العسكرية. فعلى سبيل المثال، عام 1963، كان في السعودية 250 رجلا عسكريًّا أمريكيًّا. وشكّلت المساعدات الخارجية، كما ذكرنا، أداة مهمة وأساسية في السياسة الخارجية الأمريكية، وتم تحديد برامج تقليصها أو زيادتها بشكل أساسيّ على ضوء اعتبارات استراتيجية عالمية في الحرب الباردة. وهكذا، وللمرة الأخرى، وجدت السعودية نفسها بين المطرقة الأمريكية والسندان السوفياتي.
بعد أحداث 11 أيلول
بعد 11 أيلول عام 2001 تقوّض التحالف الأمريكي السعودي، لأسباب معروفة. وخلال العقد الأخير، بدأت السعودية في التموضع كقوة سنّية مهيمنة في المنطقة، تُوازن بين القطب الشيعي، أي: إيران. أخذت السعودية دورا فاعلا في الحرب ضدّ الإرهاب الإسلامي، كشريك في التحالف ضدّ الحوثيين الشيعة في اليمن، كقوة مهيمنة في التحالف ضدّ داعش، وكـ “دبوس أمان” أمام التوسعات الأخرى لإيران الشيعية. في المقابل، بدأ يُنظر إلى الولايات المتحدة أكثر وأكثر كدولة فاقدة للاستراتيجية الواضحة وخاسرة في الشرق الأوسط؛ حيث خسرت في أفغانستان والعراق، ولم تُسيّطر على المتمردين في اليمن. بالإضافة إلى ذلك، بدا الرئيس أوباما وكأنه لم يعد قادرا على تسوية الأزمات الحالية في الشرق الأوسط. لقد تخلّى سريعًا جدّا عن القذافي ومبارك، ووقّع على اتفاقات خطيرة جدا بالنسبة لإسرائيل مع الإيرانيين. في المقابل، تهدف السعودية، التي ترغب في أن تكون القوة الرائدة في المحور السني في الشرق الأوسط، إلى زيادة ميزانية مشترياتها الدفاعية من 49 مليار دولار في السنة إلى 60 مليار دولار في السنة حتى عام 2020، وأن تصبح بذلك الدولة الخامسة في العالم في كمية الإنفاق الدفاعي.
بعد 11 أيلول عام 2001، بدأ يُنظر إلى الولايات المتحدة أكثر وأكثر كدولة فاقدة للاستراتيجية الواضحة وخاسرة في الشرق الأوسط؛ حيث خسرت في أفغانستان والعراق، ولم تُسيّطر على المتمردين في اليمن
العلاقة الروسية
على ضوء برودة العلاقات مع الأمريكيين، طرأ تحسّن ملحوظ في العلاقة بين السعودية والروس. ترتبط المصالح القومية الروسية، دائما وأبدا، بأسعار النفط العالمية، حيث إنّ للسعودية دور رئيسي في سوق النفط العالمي. هيمنت السعودية لفترة طويلة على منظمة منتجي النفط، وأملتْ الشروط في السوق. في وقت ما، سمحت السعودية بارتفاع كبير لأسعار النفط من 12 إلى 36 دولارا للبرميل عام 1979، ولاحقا خفّضت من الإنتاج من أجل الحفاظ على هذه الأسعار. واليوم، بعد الصفقة مع الإيرانيين وانخفاض أسعار النفط إلى ما تحت 50 دولارا للبرميل، فإنّ روسيا – التي تضرّر اقتصادها من هذه الخطوة – تطلب من السعوديين تخفيض الإنتاج من أجل رفع أسعار النفط. ولكن السعوديين لا يسارعون في اتخاذ هذه الخطوة. تخسر المملكة العربية السعودية نفسها أموالا هائلة منذ انخفاض الأسعار، ولكنها تصحّح ذلك من خلال زيادة الإنتاج. في أعقاب ذلك، استُئنفت في صيف هذا العام المحادثات بين السعوديين والروس. وخلال هذه المحادثات يحاول الروس جعل السعوديين يخفّضون الإنتاج، بينما يطلب السعوديون – من جهتهم – من بوتين التوقف عن دعم نظام الأسد. لقد تمّ تجنّب الإضرار على الاقتصاد السعودي في الوقت الراهن بفضل احتياطيات النقد الأجنبي الهائلة لديها، نحو 700 مليار دولار، والتي تسمح لها باجتياز انخفاض أسعار النفط دون تضرّر.
ولقد ازداد تصلّب الروس في الشأن السوري في الأسابيع الماضية، مع تعزيز الوجود الروسي في سوريا. مؤخرا، من المرجح أن يكون بوتين – كعادته – قد قال للسعوديين بأنّ تزويد السلاح الحالي يتم بموجب عقود تم توقيعها منذ عدة سنوات، وبأنّها أسلحة لأغراض دفاعية. ولكن لا يمكن تجاهل مصالحه الحقيقية: وهي الدعم المكثّف لجيش نظام الأسد، الذي يُقاتل ضدّ قوات المعارضة الجهادية وضدّ داعش. يعاني نظام الأسد من عدة مشاكل جادّة: إن الجزء الأكبر من الجنود، رغم مهاراته، ليس قادرًا على مواجهة العدوّ، إثر التكتيكات المبتكرة، و “لعبة” القتال النموذجية لدى مقاتلي داعش. لقد فرّ الكثير من الجنود من الجيش النظامي السوري من البلاد، وهم يتواجدون “في مكان ما في بودابست” في طريقهم إلى “الحياة الأفضل” في أوروبا، المليئة بالمهاجرين من الشرق الأوسط عموما ومن سوريا بشكل خاص، ويحتاج جنود الأسد إلى القتال على عدة جبهات في وقت واحد، مع غياب السيطرة الحقيقية على حدود البلاد. ولكن يستمر بوتين في أن يُظهر للعالم، ومن بين أمور أخرى، للسعوديين، أنّه لن يُهمل حلفاء روسيا أبدا. إنّ عملياته – ومن بينها وضع طائرات ومروحيات حربية في سوريا – هي إشارة إلى أنّه لن يدع نظام بشار الأسد يسقط، رغم الضغوط الهائلة التي يمارسها عليه السعوديون، وفي الواقع، العالم كله. علينا أن نذكر أنّه في السنوات الماضية أيضًا موّلت السعودية جزءًا كبيرا من عمليات المتمردين ضدّ نظام الأسد.
يستمر بوتين في أن يُظهر للعالم، وللسعوديين، أنّه لن يُهمل حلفاءه أبدا. إنّ عملياته – ومن بينها وضع طائرات ومروحيات حربية في سوريا – هي إشارة إلى أنّه لن يدع نظام بشار الأسد يسقط، رغم الضغوط الهائلة التي يمارسها عليه السعوديون
إذا تجاهلنا للحظة الخلاف حول القضية السورية بين الروس والسعوديين، يبدو أنّ إحدى أهم الخطوات التي اتخذتها السعودية في السنوات الماضية، هي خطوة تقاربها الاقتصادي من روسيا. في حزيران 2015، وقّع السعوديون على منظومة اتفاقات للتعاون، بنطاق 10 مليارات دولار تقريبا. بل وقد وقّع البلدان – “تحت مرأى ومسمع” أمريكا – اتفاق تعاون نووي، يهدف إلى تمهيد الطريق لبناء 16 مفاعلا نوويا في السعودية من قبل روسيا. وقد التزمت روسيا أيضًا بمساعدة السعودية على تدريب علماء سعوديين على التخلّص من النفايات النووية. علينا أن نذكر، بأنّه خلال التنقّل بين المطرقة الأمريكية والسندان السوفياتي، كانت السعودية في فترة الحرب الباردة عدوّا تقليديا للاتحاد السوفياتي. تجدّدت العلاقات بين البلدين عام 1992، بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي.
على خلفية التباعد عن الولايات المتحدة والتقارب من الروس في السنة الماضية، قدّر العديد من المحلّلين الأمريكيين في شهر أيار عام 2015، أنّ إلغاء الزيارة الرسمية للولايات المتحدة من قبل الملك سلمان يُشير إلى توتر وخلاف في الآراء بين الرياض وواشنطن، بخصوص الصفقة النووية التي تشكّلت في تلك الفترة، وبسبب سلوك واشنطن بخصوص الحرب في اليمن. بل وقد اعتبر المحلل الإسرائيلي تسفي بارئيل أنّ السياسة الخارجية السعودية هي “استعراض عضلات” ضدّ الأمريكيين.
عودة إلى أحضان أوباما؟
أساس التقارب السعودي – الامريكي هو إعادة صياغة دور الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، بالإضافة إلى الحفاظ على المصالح القومية للسعودية
والآن، بعد التقارب الواضح في العلاقة بين الولايات المتحدة والسعوديين في العقدين الأخيرين، يشكّل العام 2015 متعرّجا آخر في العودة تجاه الأمريكيين. إنّ أساس هذا التقارب – بعد إدارة الظهر – هو إعادة صياغة دور الولايات المتحدة في المنطقة، بالإضافة إلى الحفاظ على المصالح القومية للسعودية. إلى جانب هذا التقارب هناك أيضًا صياغة غير رسمية لبنود الاتفاق، التي تعكس شكل السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط. قال كيري، قبل عدة أشهر، إنّ الولايات المتحدة ودول النفط تعمل على تشكيل “سلسلة من التفاهمات الأمنية التي ستقودنا إلى مكان لم نكن فيه أبدا”. إنّ الإشارة إلى الدفء الإضافي في العلاقات، هو حقيقة أنّ السعودية ستستمر في شراء السلاح من الولايات المتحدة. ستكون مشكلة واشنطن من الآن: الحفاظ على التفوّق العسكري الإسرائيلي. وهذا يُفسّر امتناع الإدارة عن بيع الطائرة الحربية الجديدة F-35 من شركة “لوكهيد مارتن” للسعوديين. في نفس الوقت وافقت الإدارة على بيع هذه الطائرة ذات القدرات المتقدّمة لإسرائيل.
الإشارة الأبرز لما أسماه المحلّلون “تصفير العلاقات” و “فتح صفحة جديدة” هو زيارة الملك السعودي التاريخية لواشنطن قبل نحو ثلاثة أسابيع، واللقاء مع الرئيس أوباما، من أجل مناقشة الاتفاق النووي مع إيران. كانت هذه هي زيارة ملك السعودية سلمان الأولى للولايات المتحدة منذ أن تمّ تتويجه في شهر كانون الثاني في المنصب بعد وفاة شقيقه. سيشتري السعوديون من الأمريكيين فرقاطتين بقيمة مليار دولار، عشرة مروحيات بقيمة 1.9 مليار دولار، مروحيات من نوع “بلاك هوك” وصواريخ من نوع PAC-3 مقابل 5.4 مليار دولار ونظم أخرى ضدّ الطائرات وضدّ الصواريخ البالستية. بل قال تسفي بارئيل، في مقاله في صحيفة “هآرتس” (04/09/2015) إنّ “السعودية لا تشتري السلاح فقط؛ بل تشتري حماية تُساعد في الحفاظ على الاقتصاد الأمريكي وفي المقابل فهي تتوقع منتجات دبلوماسية مناسبة”. أي إنّه ليس مجرّد تحسّن في العلاقات بين السعوديين والأمريكيين، وإنما تعزّز غير تناسبي سعودي في هذا الحوار المتجدّد. وإذا كان الأمر كذلك، فالسعودية اليوم ذات قوة أكثر، وقدرات أكبر على التنقّل بين المطرقة والسندان.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع ميدل نيوز