قبل عشرة أيام أحيى فلسطينيون في القدس ذكرى مرور عام على مقتل محمد أبو خضير. ورغم أن العنف الذي اندلع في الصيف الماضي لم يتوقف تماما – حيث ألقى فلسطينيون أمس فقط زجاجة حارقة تجاه مستوطنة معاليه زيتيم وتجاه ثكنة تابعة للجيش الإسرائيلي في جبل المشارف وتم إحباط هجوم بالطعن يوم الخميس في حاجز قلنديا – رغم ذلك تبدّدت المخاوف من العودة إلى المشاهد التي كانت في المدينة في رمضان الفائت.
حتى الآن على الأقل. وكذلك فإنّ عودة نشطاء تنظيم “لاهافه” إلى الشوارع وسط مدينة القدس، حيث أطلقوا هناك هتافات عنصرية وهاجموا المارّة العرب، لم تتسبّب حتى الآن بتدهور عند خطّ التماس الحسّاس بين المجموعتين السكانيتين المختلفتين في المدينة.
كانت إحدى أبرز موجات العنف التي اجتاحت القدس الشرقية في العام الماضي عندما ذهب العشرات من الشباب الملثّمين من العيسوية إلى محطة الوقود الواقعة بين القرية وبين حيّ التلّة الفرنسية، وأشعلوا النار جزئيّا في المتجر القائم في المكان وتسبّبوا بأضرار كبيرة للمحطة.
أصبح مركز الحيّ مكانا للقاء، نادر جدّا في المشهد المقدسي، بين اليهود والعرب
وانضمت هذه الحادثة إلى عدة حوادث دهس جرت غير بعيد عن الحيّ وإلى مشكلة الشعور بالأمن لدى الطلاب (وخصوصا الطالبات) في شوارع الحيّ في ساعات المساء. وقد ساهمت أكثر فقط في رسم صورة التلّة الفرنسية كحيّ على خطّ التماس يعاني سكانه كثيرا من الاحتكاك بين المجموعات السكانية. كان موضوع الأمن في التلّة الفرنسية قضية رئيسية في المعركة الانتخابية في البلدية قبل عام ونصف، حينها تنافس المرشّحون بينهم حول من سيضمن حماية سكان الحيّ.
وقد نقلت زيارة لمركز تجاري في وسط الحيّ الأسبوع الماضي رسالة مختلفة: أصبح مركز الحيّ مكانا للقاء، نادر جدّا في المشهد المقدسي، بين اليهود والعرب. في تقدير أصحاب المصالح في المكان، نحو 30% من زبائنهم هم من العرب، من بينهم طلاب من الجامعة (الحيّ مجاور للحرم الجامعي في جبل المشارف)، مواطنون عرب من الشمال والمثلث يعيشون في الحيّ، وفلسطينيون من الأحياء المجاورة. بل إنّ بعض المصالح في المركز التجاري مملوكة لفلسطينيين.
قبل نحو أربعة أشهر افتتح فؤاد عبيسان، البالغ من العمر 34 عامًا من راس العمود، مطعم حمّص في الحيّ، وقد أصبح مكانًا شعبيّا. “جعلوني أشعر أنّني نجحت منذ اللحظة الأولى للافتتاح”، كما يقوم مبتسما. يملك عبيسان خبرة كبيرة في قطاع المطاعم، فقد عمل لسنوات عديدة في مطاعم بتل أبيب وفي فنادق بإيلات. في ذروة حياته المهنية كان طاهيا في مطعم “كحول” في تل باروخ.
ولكن بعد أن تزوج ووُلد أبناؤه، سعى للعودة إلى القدس وافتتح مطعم الحمّص في دكان شاغر في الطابق الثاني المهجور نسبيا في المركز التجاري. “أرى المكان هنا مثل تل أبيب، فقط دون بحر. لدي طاولات ليهود وعرب معًا – وهذا أمر نادر في القدس”.
من الصعب أن نتجاهل التنوع في المركز التجاري. فسوى سكان الحيّ من اليهود يأتي إليه سكان عرب، والذين تتزايد أعدادهم في الحيّ. معظمهم مواطنين عرب من شمال البلاد، يعملون في المدينة في مهن أكاديميّة أو حرة وينتمون إلى طبقة اقتصادية – اجتماعية عالية.
تسبّبت الانتفاضة المقدسية التي تم الشعور بها بشكل خاص في أحياء شرقي المدينة بفرار بعضهم للبحث عن معيشة في التلّة الفرنسية. التقينا بالمحامية هديل يونس من وادي عارة في صالون الحلاقة القديم، المشغّل من قبل حلّاقين عرب. إنها تعيش مع أسرتها في شعفاط، ولكنها تسعى في هذه الأيام إلى شراء شقة في الحيّ: “نحن نبحث عن جودة الحياة أبعد ممّا هو موجود داخل المنزل.
الشوارع، الأرصفة، الحديقة للأطفال، بل حتى عامل توصيل البيتزا والهمبرغر – كل ذلك موجود في التلّة الفرنسية. وقد أثرت كذلك الأحداث التي جرت في السنة الماضية، والتي كانت أياما لم نستطع فيها الخروج”.
مدير عيادة صندوق المرضى التي تعمل في المركز التجاري: “العرب هم نعمة للحيّ، إنّهم سكان جيّدون”
ليست هناك معطيات دقيقة بحوزة أي أحد حول عدد العرب الذين يعيشون في الحيّ، ولكن الكثيرين يزعمون أنّ هناك ارتفاع، وخصوصا في شوارع معيّنة. ربّما بخلاف ما يمكن توقّعه، لا يتذكّر أحد بأنّ أحد ما قد اشتكى، احتجّ أو حتى أعرب عن اهتمام خاص بالظاهرة. “العرب هم نعمة للحيّ، إنّهم سكان جيّدون”، يقول مدير عيادة صندوق المرضى “كلاليت” والتي تعمل في المركز التجاري، روني كنعاني. الحيّ أكثر تعدّدية وانفتاحا من الصورة التي رُسمت له. في الواقع فالوضع اليوم أقلّ إشكالية بكثير. هناك ظهور كبير للعرب في المركز ولكن ليس هناك شعور بأنّ ذلك سيخلق مشكلة”، كما يقول إيتاي ليتمان، وهو مواطن وناشط اجتماعي في الحيّ.
وسوى سكان الحيّ، يأتي إلى المركز أيضًا الكثير من الفلسطينيين من الأحياء المجاورة. ووفقًا لأصحاب المحلات في المكان، فإنّ سكان العيسوية، القرية المجاورة وذات الوضع الصعب، يأتون لاستهلاك خدمات ليست متوفرة في القرية: كالبريد، البنك والسوبر ماركت. ويأتي سكان بيت حنينا وشعفاط، وهما الحيّان الأفضل حالا في القدس الشرقية، إلى لقاءات عمل في المقهى أو لوجبة أو للترفيه. “أحبّ زبائني العرب كثيرا، إنهم جمهور نوعي لا يجادل على المال مقارنة بالإسرائيلي العادي. المشكلة الوحيدة معهم هي أنّهم لا يأتون بأعداد كبيرة بشكل كافٍ”، كما يقول موتي ساسون، صاحب مطعم الطبخ “تسيونا” الذي يعمل في المكان منذ 30 عامًا.
ومؤخرا هناك عدوّ للمجموعتين السكانيّتين اللتين اقتربتا من بعضهما البعض: مكبّ ضخم للأتربة وركام الأبنية من المقرّر أن يتم إنشاؤه في المنطقة المفتوحة بين العيسوية، التلّة الفرنسيّة ورأس خميس – وهو حيّ فلسطيني يقع وراء حاجز شعفاط. توحّدت الأحياء مؤخرا في نضال مشترك ضدّ مبادرة البلدية بإقامة المكبّ. في الأسبوع الماضي، ظهر ممثّلو تلك الأحياء سوية أمام لجنة الداخلية في الكنيست في نقاش حول الموضوع وهم يعملون فعلا على استمرار النضال المشترك.
في هذه الأثناء، يتمتّع جميع المشاركين بنجاح تحقيق السلام في التلّة الفرنسيّة، وليس هم فحسب. مجموعات أخرى بارزة في حضورها في المركز التجاري الصغير وهي من الطلاب والمواطنين الأجانب من جميع أنجاء العالم. يختاره الطلاب بشكل أساسيّ بسبب قربه من الجامعة، وكذلك موظّفو المنظّمات الدولية والممثليات الأجنبية التي تنشط مع الفلسطينيين والذين استقرّوا في الحيّ تحديدًا لأنّه مكان للعبور إلى الخطّ الأخضر؛ والذين يبحثون عن سكن مجاور لمكان عملهم.
“تشكل منطقة المائة متر الأكثر تميّزا في كل القدس”، كما يقول المحامي نضال طه، والذي يملك مكتبا في المكان، “من السوبر حتى الهمبرغر، الشارع الأكثر تميّزا، حيث يعرف الجميع بعضهم البعض، ولا ينظرون سواء كنت عربيا أو يهوديا. لقد مررنا هنا بفترات صعبة. مررنا بقتل محمد أبو خضير وبعملية “الجرف الصامد”. كلٌّ منّا شعر بغضب. كان هناك يوم واحد كان فيه 30 قتيلا في الشجاعية وخمسة جنود. غضب صاحب أحد المقاهي هنا لوفاة الجنود وغضبت أنا لوفاة المدنيّين، ولكن حاولنا عدم الحديث عن ذلك. بما أننا اجتزنا ذلك فأنا أعتقد أنّنا سنجتاز كلّ شيء”.
أما رئيس المجلس المحلّي للحي، إيلي روزنفيلد، فهو أقلّ تفاؤلا، وخصوصا في كلّ ما يتعلّق بالعلاقة مع الحيّ الفلسطيني المجاور: “لا شكّ أنّه يوجد هنا تعايش، ولكنه هدوء مشوب بالتوتّر، فلم يهدأ الأمر بعد. يوم السبت قبل أسبوعين، توجه ثلاثة شبان من العيسوية إلى طفل يهودي في المركز، أخذوا منه دراجته الهوائية وفرّوا إلى داخل القرية. كلّ شيء مبنيّ على نسيج رقيق جدّا جدّا، وهناك من يرغب بتفكيكه. نحن نبذل جهدنا للحفاظ عليه”.
ويتميّز المركز التجاري في التلّة الفرنسية في القدس أيضًا بحقيقة كونه المركز التجاري الوحيد في المدينة والذي فيه محلات تفتح يوم السبت، ومن بينها مطعم الحمص الذي يملكه عبيسان ومطعم الهمبورغر المجاور، والذي يملكه فلسطيني أيضًا. “الحمص يصنع السلام”، ينقل عبيسان المقولة القديمة، “إذا دخل عربي إلى المقهى، ينظرون مباشرة لتفحص إذا ما كانت بحوزته حقيبة يخفي فيها وسائل ما أم لا، يسود الهدوء هنا. لو افتتح رئيس الحكومة مطعم حمّص لكان هناك سلام فعلا”.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في صحيفة “هآرتس”