كانت لديّ دائما علاقة مميّزة مع الأصدقاء، الذين كان والداهم يهودا من مهاجري البلدان العربيّة. علاقة ثقافية، وعاطفية، وحسّية، وطهوية أولية. لقد أثارت اهتمامي دائما القصص العائلية عن الحياة في بغداد، البصرة، دمشق، حلب والدار البيضاء. كذلك بساطة الحياة، الغطس في نهري دجلة والفرات في أيام الصيف الحارّة، احتفالات الميمونة في مدينة فاس لدى انتهاء عيد الفصح وحفلات الزفاف الفخمة في الأحياء الملوّنة بمراكش.
من أجل فهم أفضل للثقافة اليهودية العربية المنسية هذه، سافرتُ للقاء حكواتي يهودي، الأخير تقريبا، الذي ما زال باستطاعته أخذي لجولة خيالية في أحياء البصرة الصغيرة والعبقة.
يوسي ألفي (70 عاما)، هو رجل مسرح، كاتب، محاضر، وإعلامي إسرائيلي معروف جدا في إسرائيل. ألفي، الذي يعتبر أبا للمسرح الجماهيري، هو مؤسس مهرجان “رواة القصص” الذي يجري كل عام في فترة عيد المظالّ.
“عليك أن تفهم، أن الثقافة العربية والثقافة اليهودية قريبتان جدا. فهما شرق أوسطيّتين. في الثقافة اليهودية هناك قصص. ويستند الكتاب المقدّس كله إلى القصص. وقد قدّست اليهودية أيضًا القصة كي تتذكر الأجيال على مر السنوات التقاليد. لقد أخذ الإسلام تقاليد القصص ومزجها مع الرؤيا الدينية الخاصة به ولكنه لم يقدّسها. في المسيحية والعالم الغربي لا يوجد قصص، هناك أساطير، وهذا يختلف جدا”، هذا ما يقوله لي بحماسة ألفي وهو جالس خلف طاولة العمل المليئة بالأوراق، في خضمّ الاستعدادات المحمومة قبيل المهرجان بعد نحو أسبوعَين.
جاءت فكرة المهرجان عندما كان ألفي قد اعتاد على التجوّل في البلاد وقراءة الأشعار التي كتبها. كانت هناك قصة وراء كل قصيدة. اقترح رئيس بلدية جفعتايم (مدينة في وسط إسرائيل فيها تركيز كبير من العائلات اليهودية من مهاجري العراق) اقتراحا مغريا لألفي وطلب منه أن يحكي القصص للجمهور العريض من على منصة المسرح في المدينة. توسع الموضوع كل عام وتوافد المئات على المسارح لسماع القصص، ذكريات الطفولة، تذكّر عبق الطعام، ليلمسوا بخيالهم الجدران الملّونة للمنازل في الأزقة المزدحمة بالأطفال المشاغبين في المدن العربية المفعمة بالحياة في وقت ما في سنوات العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
لماذا لا يزال الناس ينجذبون لرواة القصص؟
“إنهم يريدون سماع أنفسهم. عندما يرغب أحد ما بشراء بطاقة لمهرجان فهو يرغب بسماع القصص عن الحياة الصعبة التي عاشها المهاجرون اليهود الذين قدموا إلى إسرائيل بين عاميّ 1948-1949. وهو يرغب بإسماع صوته عن طريق راوي القصص. فمن خلاله يعيش طفولته وشبابه. يريد الناس تذكّر الألم. يمنحهم الألم القوة للاستمرار إلى الأمام”.
وُلد ألفي في البصرة بالعراق عام 1945، أي قبل نحو ثلاثة سنوات قبل الإعلان عن قيام دولة اليهود في إسرائيل. “أتذكّر الكثير من طفولتي في البصرة. أذكر جلالة (غطاء). وأنا مستلقٍ عليها وتلوح فوق رأسي سعف النخيل. أذكر السطح الذي كنا نقضي الوقت عليه مع العائلة. كما وأذكر قدومي إلى إسرائيل بالضبط”.
وحين كان يخبرني عن قدومه إلى إسرائيل، أرى علامات شوق كبير، لفترة تم نسيانها. “خرجنا من البيت في جوف الليل”. وحينها سألته مباشرة، لماذا يقول جميع اليهودي إنهم قد فرّوا في جوف الليل؟ “هل ستهرب في النهار أمام أنظار الجميع؟ كان هناك خوف حقيقي. هل تعرف من يكون شفيق عدس؟ لقد كان جارنا. رجل أعمال ثري جدا ومقرّب للسلطات وشخصية عامة معروفة جدا. تولى شفيق بنفسه إقامة وإدارة وكالة شركة السيارات الأمريكية “فورد” في العراق. لقد تمّ اعدامه شنقا بتهمة بيع السلاح لدولة إسرائيل الجديدة حينذاك. لقد شاهَدَتهُ والدتي مشنوقًا على عمود الكهرباء قرب منزلنا. كان ذلك صادمًا، حتى أطفاله شاهدوه مشنوقًا. القصة الحزينة هي أنّ العائلة أرادت إنزاله كي يتم إحضار جثّته للدفن، ولكن السلطات لم تسمح لهم. جاءت شاحنة لجمع القمامة وأخذت جثّته للقمامة، في اليوم التالي”.
“سافرتُ أنا مع جدّتي التي لم توافق على التخلي عنّي رغم أنه كان ممنوعا الذهاب مع الأطفال الصغار. اجتزنا شط العرب من البصرة إلى عبدان في قارب. ثم قضينا عدة أيام في عبدان عند أقاربنا وبعد ذلك اجتزنا كل الطريق حتى طهران، حيث أقمنا هناك في مقبرة. ومن هناك أكملنا رحلتنا إلى إسرائيل، وعندما وصلنا إلى الأراضي المقدّسة، تم إسكاننا في مخيّم انتقالي. عشنا أنا وجدّتي في خيمة صغيرة خلال عامين في ظروف مادية صعبة جدّا. جئنا في ذروة الحرب بين الدول العربيّة وإسرائيل، لم يكن هناك طعام ولا مياه جارية”.
لقد صُدم ألفي من اللقاء مع الثقافة الجديدة في إسرائيل. لقد كان يتحدّث العبرية بصعوبة، وكان يتحدّث العربية وكان عليه التكيّف سريعا مع الثقافة الجديدة، التي أورثتها الدولة العبرية لمواطنيها الجدد.
ما هو الأمر الذي كان الأكثر صدما بالنسبة لك خلال انتقالك من البصرة إلى إسرائيل؟
“عندما قاموا بخنقي. كان ممنوعا أن نقول كلمة في الطريق من البصرة إلى إسرائيل. في شط العرب لم يكن بالإمكان الحديث بكلمة وقد بكيتُ وحاولت جدّتي إسكاتي. وضعوا عليّ الحِزَم والخرق وضغطوا عليّ جميع الأمتعة. لا زلت أذكر ذلك حتى اليوم، كان الناس يدوسون على وجهي من أجل إسكاتي خشية من الانكشاف”.
قدِم والدا ألفي إلى البلاد عندما كان في الخامسة أو الخامسة والنصف من عمره. لقد تعلّم ألفي العبرية سريعًا جدا. وهو يعترف أنه في شبابه لم يكن يرغب بأن يسمّى عراقيّا، لقد أراد التخلّص من التقاليد، وأراد التجديد بالهويات الجديدة، الغربية التي جاءت بها الدولة الجديدة. بعد دراسته بدأ يفهم معنى التقاليد العراقية القديمة. واليوم وهو كبير فهو يعرّف نفسه “يهودي عربي”.
أبناء ألفي، غوري وشيري هما أيضًا فنانان ناجحان في إسرائيل. شيري ممثّلة ومغنية إسرائيلية ناجحة وقد نجحت أيضا في إثارة عاطفة والدها، في عيد ميلاده الستين، عندما قامت بأداء أغنية التهليل بالعراقية والتي كان يحبّها جدّا، “فوق النخل”. قال ألفي حينذاك، إنه تأثر بهذه البادرة حتى ذرف دموعا. ويُعتبر غوري ألفي، ابنه البكر، أيضًا أحد الفنانين الكوميديين الأكثر نجاحا اليوم في صناعة الترفيه الإسرائيلية.
في التسعينات، أي سنوات الأمل بالسلام الشامل بين إسرائيل والفلسطينيين، بعد أن تم التوقيع على اتفاق السلام مع الأردن، كان ألفي يستضيف في المهرجان العديد من الفنانين العرب: مصريون، أردنيّون وفلسطينيون. سمحت أساليب العمل في المسرح الجماهيري الذي أسسه ألفي في أرجاء البلاد، بإنشاء حوار مثمر من خلال المسرح. “كان المستهلِك الأكثر إخلاصا للمسرح الجماهيري هم عرب إسرائيل. كان هناك نقص في التواصل بين اليهود والعرب، وسمح المسرح بسدّ الفجوات وعرض المشاكل، المزايا والعيوب لدى كل طرف”.
ما رأيك ببرامج الواقع؟ إذ إن الناس اليوم لا يذهبون تقريبًا إلى المسرح
“خطيئة وظلم في عصرنا. كم من الممكن أن ننظر المزيد في الحياة الخاصة لشخص ما وهو يجلس في برنامج “الأخ الأكبر”؟ هذا ليس فنّا، وهذا النوع الفني التلفزيوني آخذ بالانحطاط. برامج الواقع هي معاداة تامّة للثقافة. إنها تكاد تصل إلى النازية. يقتلون أرواح الناس في بثّ حيّ. إنه تماما مثل حروب المصارعين في فترة الرومان: جمهور كبير يتجمّع كي يرى من ينجح في البقاء على قيد الحياة من خلال القتل. يواجه الناس صدمات قاسية بعد مشاركتهم في مثل هذه البرامج”.
ماذا كنت ستقول عن الجالية العراقية اليهودية التي تعيش اليوم في إسرائيل؟
“خاصية واحدة وبسيطة. نحن نبحث عن السلام. إنه جزء لا يتجزأ من دمنا. كنت سأنقل هذه الرسالة للعراقيين الأصلاء في بغداد، البصرة والموصل اليوم. سأخبرك بأكثر من ذلك، إذا كان في يوم من الأيام رئيس حكومة في إسرائيل من أصول عراقية، فسيطمح أكثر من جميع رؤساء الحكومة الإسرائيليين السابقين لتحقيق السلام مع جيراننا. نحن نتحدث بنفس اللغة ونحن نموت شوقًا للذهاب إلى العراق وزيارتها. نحن الوحيدون في العالم الذين لا نستطيع العودة إلى أوطاننا. هناك مثلي آلاف العراقيين الذين يعيشون في البلاد وأنت ترى البريق في أعينهم وهم يلتقون في الخارج بعراقيين أصلاء”.
ما الذي يجعل الإنسان راوي قصص ناجح؟
“القدرة على الإنصات. أن يكون بإمكانه استيعاب الآخر”.
أي قصص تثيرك؟
“أتأثر من القصص الشخصية”.
لو طلبت منك أن تحكي لي قصة عراقية قصيرة، ماذا كنت ستحكي لي؟
“حمار وعصفور يجلسان في طائرة. يضغط العصفور على زرّ مكتوب عليه “المضيفة”. تأتي المضيفة وتسأل بأدب: “نعم، كيف يمكنني أن أخدمك؟”. يجيب العصفور: “والله ودي اتشاقى وياكي” (بلهجة عراقية: أريد أن أتشاقى معك). ابتسمت المضيفة للعصفور بأدب وذهبت. يكرر العصفور الضغط على الزرّ ويستدعي المضيفة. تأتي المضيفة اللطيفة مرة أخرى وتسأله كيف يمكن أن تساعده. ومرة أخرى يقول العصفور: “والله ودي اتشاقى وياكي”. ومجدّدا تبتسم المضيفة بأدب وتعود إلى مكانها. رأى الحمار أن الأمر جيد وأن العصفور سعيد، يبتهج ويغرّد. قال لنفسه أنا أيضًا أريد أن أتشاقى مع المضيفة. ضغط على الزرّ واستدعى المضيفة. جاءت المضيفة وسألت الحمار كيف يمكن أن أساعدك. ضحك الحمار وقال: “والله ودي اتشاقى وياكي”. ابتسمت المضيفة بأدب وعادت إلى قمرة القيادة غاضبة وأخبرت الطيّار عن المسافرَين اللذين يزعجانها. قال لها الطيّار في المرة القادمة التي يزعجانك فيها، افتحي النافذة وألقي بهما منها. استغلّ الحمار مرة أخرى هذا الوضع وضغط مرة أخرى على الزرّ. ولكن هذه المرة جاءت المضيفة، فتحت باب الطائرة وألقت بكليهما. وهما يسقطان سأل العصفور الحمار، وهو يطير بجانبه: “يا حمار تعرف اطير؟” أجاب الحمار: “لا”. فأجابه العصفور: “ما بتعرف اطير ليش تتشاقى؟”.