“إنه ليس مطعمًا فاخرًا”، يسارع صلاح كُردي، شيف مطعم “الجميلة” إلى التصريح، بعدَ أن أوضحتُ له أنني أرسلتُ لتغطية المطعم الفلسطيني الفاخِر الجديد الذي افتُتح في يافا. فرغم المظهر الأنيق للمطعم والمبنى المزخرَف الذي يقيم فيه في قلب سوق يافا، صلاح صادق. الجوّ في المكان جميل لكنه ليس مُصطنَعًا، وهو يعكس رغبة صادقة لجماهير واسعة في المجتمَع الإسرائيلي للتعرُّض لمذاقات جديدة. صحيح أنّ أسعار الوجبات مرتفِعة نسبيًّا، لكنها لا تزال بعيدة عن أسعار المطاعم في تل أبيب المجاوِرة، وتتيح للإنسان العاديّ اختبار تجربة مثيرة.
يؤكّد صلاح انطباعي. “هدفنا هو الطبقة الوسطى. إذا جاءني إنسان جائع يده على جيبه، أقول له إنّه غير مناسِب. إذا كان أحد يظنّ أنه سيُحضِر 10 أولاد ويأكل بـ 300 شاقل، فليس هذا هو المكان الصحيح”. حسب تعبيره، لا تهدف الأسعار المرتفِعة إلى إقصاء أحد من المطعم. فهي تأتي من الاهتمام الذي يوليه بجودة الطعام، الطاقم الذي يعمل معه في المطبخ وخارجه، الموقع في مركز السوق، وطزاجة الموادّ الخام. “أشتري كمّيات صغيرة، وتصلني الموادّ يوميًّا من المزوِّد. للجودة ثمنٌ في أيّامنا”، يوضح.
قبل أن يأتي صلاح إلى طاولتي، قررتُ تجربة بعض مأكولات المطعم. توجّهت النادلة اللطيفة إليّ مع لوائح الطعام، أصغت بانتباهٍ شديد إلى أسئلتي، ونصحتني في النهاية بـشيشبرك الجدّة، معجّنات محشيّة بلحم خروف رُشّت عليها صلصة لبن حارّة، وسلطة فتّوش، مع خيرة الخضار في المنطقة وجبنة ماعز مقليّة. وصلت الوجبتان بسرعة، ورغم وصفهما البسيط في اللائحة، يبدو الفرق واضحًا بين هذا المطعم والمطعم العاديّ.
الوجبات متعوب عليها واللمسة الشخصيّة محسوسة، ورغم أنني تناولتُ في الماضي مأكولات شبيهة في الأسلوب، فإنّ الشعور مختلِف كليًّا. أقطع المعجّنات، وأتمتّع بكلّ لقمة. رغم مذاقه السائد، فإنّ لحم الخروف لا يسيطر على الوجبة، بل يندمج بشكلٍ ممتاز مع العجينة السميكة، وكذلك مع الثوم والبصل المُذابَين داخل الصلصة الحرّة. إنها لذّة صافية حقًّا! تفسير مثير للاهتمام ومختلِف للعجين، الذي يُعتبَر أكلة بسيطة، ويمثّل عظمة الاندماج بين المطبخ الفلسطيني والمطبخ اليهوديّ. تجعل الحيويّة التي يمنحها الاحمرار للسلطة هذه الإضافة اللذيذة اختبارًا، يستمرّ في مرافقتي طوال المقابلة، بين سؤال وآخَر.
أطلب منديل العرايس كوجبة رئيسية، وهو كباب حَمَل مخبوز، مع بندورة محروقة من فوق وخلفية مسبحة عدس من تحت. خلافًا للوجبة السابقة، التي هي عبارة عن تطوير لوجبات شبيهة موجودة في المطبخ الإسرائيلي – اليهودي، فإنني قابلتُ هنا مذاقات وخلطات لم أكن أعرفها. لحم الخروف غنيّ ولذيذ، وكلّ لقمة تكشف عن عالَم جديد ورائع؛ يسيل سائل البندورة على قطَع اللحم ويضيف طعمًا يميل إلى الحموضة؛ فيما عجينة العدس الشبيهة بالحمّص رقيقة النسيج وتعكس أعماقًا في الطعم لم أعرفها موجودة في هذا النوع الجميل من الحبوب.
مباشرةً بعد أن استسلمتُ ووضعت الملعقة والسكّين على الطاولة، سارعتُ إلى إرسال رسالة نصيّة إلى أمّي، طالبًا أن تضيف وجبةً أخرى إلى مائدة العيد… بعد أن أثرتُ غدد الذوق على لساني، وملأتُ بطني بكلّ ما لذّ وطاب، شعرتُ بأنني مستعدٌّ أكثر لمواصلة المقابلة.
س: متى بدأتَ العمل في الطبخ؟
“يأتي الطبخ من البيت. أنا آخر العنقود، ونشأتُ في حيّ ذي ساحة مركزيّة، طبخت فيها جميع الأمهات. تجوّلتُ بينهنّ وقت الطبخ، وكان عملي أن أتذوق شوكولا الكعك بعد التحضير… (ضاحكًا) من هناك كانت البداية. تعلمتُ الكثير من ذلك. فكلّ ما أقدّمه هنا في المطعم هو من هناك، من البيت والساحة”. وفق أقوال صلاح، إنها المقاربة التي تشكّل أساس المطعم، الفكرة التي منحته دفعًا إلى الأمام. “كلّ الوقت، أتذكّر مذاقاتٍ من الماضي، وهذا تمامًا ما فعلتُه هنا – أخذتُ أمورًا من الطفولة، ودمجتُها بأمور آنيّة”.
بدأ مهنة الطبخ قبل ثلاثين سنة، حين بدأ العمل في مطاعم على ساحل يافا، كان اختصاصها الأسماك. “بعد ذلك تنقّلتُ بين أهم الطبّاخين في أيّامنا”، يروي صلاح ويتوقّف برهةً ليحيّي أحد ضيوف المطعم. يبدو أنه الشيف الأخير الذي عمل معه، يائير فاينبرج، الذي تعلّم منه كثيرًا. “تعلمتُ منه تقنيّة التجدُّد في الطبخ – الطبخ الجزيئي. أخذتُ الطرق الجديدة، واستخدمتُها في الأكل العربي، فهذه هي التقنيّة العالية في الطّعام.
س: متى وأين تبلورَ لديك قرار افتتاح مطعم خاصّ بك؟
“كلّ من يعمل في المطبخ ويرى نفسه شيفًا يحلم بإقامة مطعم خاصّ به مع المذاقات التي يحلُم بتقديمها، والطعام الذي يرغب في تحضيره من القلب. في المطاعم، يُملي عليك الشيف أو صاحب المطعم لوائحه الخاصّة. هنا، أنا الشيف والمالك، وأنا أضع نكهاتي ونفسي على المائدة. كلّ ما قرأتَه في لائحة الطعام هو أنا. هذه قصص طفولة، ذكريات، ويجري هذا رغبةً في تقديم الكرامة اللائقة لميراث الطبخ”.
س: هذا المطعم مختلِف عن المطاعم العربية التي نراها عادةً في منطقة يافا. فهل هذا مقصود؟
يحرّك صلاح رأسه، ويسارع إلى الإيضاح: “في بيتٍ عربيّ حقيقيّ، ليس معتادًا وضع 20 نوعًا من السلطة على المائدة قبل البدء بتناوُل الطعام. ثمة وجبة رئيسية مع إضافة، فرضًا الأرزّ مع اللبن، أو الأسماك مع السلطة وبعض الطحينة، دون مُبالَغة. قضية السلطات وكلّ ما ترَونه في المطاعم العربية هو شأن سياحيّ أكثر ممّا هو انعكاس للواقع”.
وتابع: “لذا فكّرت: (لحظة، أريد تقديم الحقيقيّ). إنه مطبخ عربيّ يافاويّ، دون تظاهُر سياسيّ”، يتابع صلاح ليوضح أنّ المطبخ الفلسطيني وفق النظرة الإسرائيلية هو مطبخ جليليّ، يركّز كثيرًا على اللحوم، وأنّ معظم الإسرائيليين لا يعرفون أبدًا المطبخ اليافاويّ الأصلي، المرتكز على الأسماك. “أتت الحضارات وذهبت، ومعها المأكولات المختلفة، لكنّها كانت دائمًا مبنيّة على البيّارات والبحر، على الفاكهة، الأسماك، وثمار البحر”.
س: أية وجبة لديها قصّة خاصّة؟
“ثمّة عدّة وجبات هي عبارة عن دمج لحالاتٍ شخصيّة بي، من الماضي والحاضِر. على سبيل المثال، سلطة الجميلة. كأطفالٍ، كنّا نذهب إلى بيّارة جيراننا، وكان لديهم شجرة حمضيّات رائعة، في أحد فروعها مندلينا، وفي فرع آخَر ليمون الجنّة (الغريب فروت). كانت الجدّة الجالسة في ظلّها تجمع الخبيزة، وتحضّر سلطة كنّا نأكلها. بعد ذلك بسنواتٍ، حين عملتُ في البحر، انطفأ المحرّك، ومرّ يوم أو يومان حتّى أتى أحدٌ لإنقاذ القارب، فأكلنا سمكًا نيئًا لنبقى أحياء. تتشابك ذكريات الطفولة مع الجدّة بتجربة التورُّط في البحر، وكذلك الأسماك النيئة في السلطة مع البرتقال، خلطة تجمع الطفولة والبلوغ – سلطة رائعة”.
ولاسم السلطة – واسم المطعم كذلك – تفسيرٌ مثير للاهتمام. “دعوتُه على اسم شقيقتي، جميلة – كبادرة حسن نيّة تجاه الأخت التي ربّتني بعد وفاة أمّنا، وكانت العمود الفقريّ للبيت من جهة الطبخ”، يوضح صلاح ويضيف أنّ الاسم يُشير إلى الكتاب الذي كُتب عن يافا قبل سنوات تحت عنوان “يافا الجميلة”.
في هذه المرحلة، أشعر بحاجة متزايدة – السكّر يدعوني. أطلب من صلاح أن ينصحني بحلوى من لائحة مقلَّصة، تكون ذات جودة ومدهِشة. أمامي حلوى باسم مِستيكا، أتساءل ماذا تحوي. إنها المهلبيّة (“لكن ليس كما تعرفُها، بل مع زعفران”، يشدّد متباهيًا بالتابل الثمين)، مقدَّمة برفقة صلصة حمضيّات وكشط قشر برتقال مطهوّ بالسكّر مع كاجو محلّى ومُقطَّع. يملأ مذاق الحمضيّات والورود الخلفية في الفم، لكنه لا يغطّي على نسيج المهلبيّة التي يجري الحرص عليها، ويحصل على انعطاف مع مذاق الزعفران المُميَّز. أثني عليه وأعده بتذوُّق القرع المطهوّ بعصير الهال، والقطايف مع التوت المحلّى في الزيارة القادمة.
س: ماذا يخبّئ لك المستقبل؟ ما هي أمنيتك؟
“المرحلة القادمة؟ مطعم في نيويورك”، يضحك صلاح ويعترف بأنه وصل إلى ذروته: “أنا على قمّة العالم”. رغم ذلك، لا يريد ولا يستطيع النوم على الحرير. “لا يمكن الجلوس بهدوء والاسترخاء. دائمًا، أتأكد من أنّ كل شيء على ما يُرام، كلّ شيء دقيق. أنا مسؤول مسؤوليةً تامّة عن كلّ وجبة. أنا أُملي المكوِّنات، أتابع الطبخ، وأهتمّ بطريقة وضع الطعام في الصحن. كلّ شيء هو جزء من العملية، لا تقرير المذاقات فقط. يهمّني جدًّا أن تكون كلّ وجبة ما قصدتُه بالضبط”.
في النهاية، يُعرب صلاح عن أمله في أن يقدّر الجمهور المحليّ في يافا المطعم. “المطعم مفتوح منذ شهر ونصف، ولم يدخُل من يافا أكثر من 4 أو 5 أشخاص. أنا أعطي الاحترام لطعام المدينة، وسكّانها متردّدون”، يعبّر عن خيبة أمل طفيفة، ويوضح: “إنها مأكولات أكلها هؤلاء الناس في البيت”. المشكلة حسب رأيه من جهة عرب يافا هي أنّ ثمة فرقًا لديهم بين ما يأكلونه في البيت وما يأكلونه في المطعم. رغم ذلك، يحافظ على التفاؤل، ويوجز: “رُوَيدًا رُوَيدًا، سيتعلّم كلّ شخص أنه يمكن أن يأكل في المطعم ما يُؤكَل في المنزل”.