أضحى سكّان غزة معتادين على الأزيز الذي يُنذر بالسوء. هذا الضجيج هو الذي منح الطائرة الإسرائيلية دون طيّار اسمها العربي: زنّانة. فخلافًا للدبابات والقوّات البرية التي اجتاحت غزة في الماضي وخرجت منها، أمسى صوت الطنين في السماء مُذكّرًا دائمًا بعين إسرائيل المفتوحة على القطاع، وبقدرتها على المهاجمة في أية لحظة. “حين نسمع طائرة دون طيّار نسمع الموت”، قال أحد مواطني غزة.
لن نعلمَ أبدًا إن كان أحمد الجعبري، القيادي في كتائب عز الدين القسّام، لم يسمع ضجيج الأزيز أو تجاهله ظهر 14 تشرين الثاني 2012، حين سافر في سيارته في مدينة غزّة. تعقّبت طائرة من طراز “هرمس 450” طارت فوق سماء المدينة سيّارة الجعبري، وأطلقت عليها صاروخًا دقيقًا قتله وابنه. لم يكن الجعبري أول من تغتاله إسرائيل بهذه الطريقة، فقد لاقى الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي حتفهما عبر قذائف من طائرة دون طيّار.
فخرُ الصناعة الإسرائيلية
ثمة ميّزات كثيرة للاستخدام العسكري لطائرات دون طيّار. أوّلًا، يتيح استخدام طائرات دون طيّار المخاطرة بشكل أكبر من قيادة طائرة بطيّار. الأذى الناجم عن فقدان الطائرة وتعريض حياة قائدها للخطر أكبر بكثير من الأذى الناجم عن فقدان مروحية دون طيّار، والمهامّ التي عرّضت في الماضي الطيارين إلى خطر الأسر أو الموت تُنفَّذ اليوم دون خوف من أمور كهذَين.
فضلًا عن ذلك، يمكن للطائرة دون طيّار المشاركة في المهامّ التي تستغرق أيّامًا، إذ يَستبدل الأشخاص الذين يشغّلونها، الجالسون على الأرض، بعضهم بعضًا في ورديّات. وفق أقوال قائد سلاح الجوّ الإسرائيلي السابق، عيدو نحوشتان، فإنّ 25% من الرحلات الجوية الحالية لسلاح الجوّ الإسرائيلي تُنفّذها طائراتٌ دون طيّار، وثمة من يتوقع أن تكون الرحلات دون طيّار أكثر من الرحلات الجوية العاديّة في المستقبل القريب. مشغَّلو الطائرات هم جنود أنهًوا جزءًا هامًّا من دورة طيران سلاح الجوّ لكنهم خرجوا، وظروف عملهم مساوية لتلك التي للطيّارين.
في الماضي، كان يُطلق في إسرائيل اللقب “طائرة صغيرة دون طيّار” على هذه الآلة. أمّا اليوم فيتراوح تنوّع الآلات الطائرة الموجودة لدى الجيش الإسرائيلي بين آلات تزِن كيلوغرامات قليلة والمسافة بين جناحَيها هي بطول نحو 20 سنتيمترًا، وأخرى تزن أطنانًا والمسافة بين جناحَيها تزيد عن عشرة أمتار.
في مقابلة مع صحيفة “واشنطن بوست” عام 2011، روى مسؤول في صناعة الطيران الإسرائيلية أنه حين بدأ في إسرائيل إنتاج الطائرات دون طيّار عام 1974، لم يكن أحد مهتمًّا بها، أمّا اليوم فالوضع مختلف تمامًا. ففي شهر أيار من هذا العام، نُشر أنّ إسرائيل هي المصدِّر الأكبر في العالم لأدوات الطيران دون طيّار، وأنّ العقد الأخير شهد تصدير إسرائيل للعالم طائرات دون طيار بقيمة نحو 4.6 مليارات دولار.
نحو 10% من مجمل التصدير العسكري الإسرائيلي ينتمي إلى صناعة الطائرات دون طيّار. “للصناعة الإسرائيلية صيتٌ يرتكز على قدرات تكنولوجيّة ذات سنوات عديدة، ولا يمكن قلقلة هذا بسهولة”، قال هذا الأسبوع ياكي برنس، محلَّل في الطاقم الأمني لشركة الاستشارة “فروست أند ساليفان” لصحيفة هآرتس.
من طائرات ألعوبة حتّى الطائرات الحقيقية
بدأ استخدام الطائرات دون طيّار في الجيش الإسرائيلي لأول مرة عام 1969 حين اقتنت شعبة الاستخبارات الإسرائيلية عددًا من الطائرات الألعوبة من الولايات المتّحدة، ركّبت عليها كاميرات، وبدأت بتجارب لتصوير مواقع مصريّة وأردنيّة. إثر نجاح التجربة، أقيمت وحدة ثابتة في قسم الجمع لتشغيل هذه الآلات، اشتُريت طائرات متطوّرة، ورُكّبت عليها كاميرا تلفزيونيّة.
في بداية السبعينات، تمّ شراء طائرات صغيرة من طراز “تشاكر” من الولايات المتحدة، كانت تهدف إلى تضليل الصواريخ المضادّة للطائرات لدى سلاح الجوّ المصريّ. بعد حرب تشرين 1973، سقطت إحدى طائرات “تشاكر” في الأراضي المصرية، وعُرضت بتباهٍ في متحف الغنائم المصريّ.
في أوائل الثمانينات، بدأ استخدام أوّل طراز من نتاج الصناعة الجوّية الإسرائيلية، باسم “سكاوت”. ورغم أنها كانت طائرة استخبارات، فقد سّجّل في رصيدها إسقاط طائرة “ميج” سورية”، حاولت اعتراضها وتحطّمت. كانت “سكاوت” أول آلة طيران تمكنت من كشف موكب الأمين العام لحزب الله، عباس الموسوي، عام 1992، وهي التي قادت المروحيات الحربية التي اغتالت الموسوي. في وقت لاحق، جرى تطوير طُرز ذات قدرات هجومية محسَّنة، تستطيع هي نفسها إلقاء صواريخ من طراز “هيلفاير”.
أحد التصاميم الأخيرة في هذا المجال هو طراز “إيتان”، القادر على تنفيذ مهامّ كانت حتّى الآن من وظيفة الطائرات الحربية مع طيّار، مثل الإشارة إلى أهداف للهجوم، تصويرها من مدى بعيد، الهجوم، وتدمير الصواريخ الباليستية في موضع إطلاقها. والميزة الأخرى لطراز “إيتان” هي قدرته على التحليق المتواصل لأكثر من 36 ساعة.
المأزق الأمريكي
الولايات المتحدة هي اليوم أكثر دولة في العالم تستخدم طائراتٍ دون طيّار. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ازداد جدًّا استخدام الولايات المتحدة لهذه الآلات. فوفق تحقيق للغارديان البريطانية، للولايات المتحدة ما لا يقلّ عن 678 طائرة دون طيّار، من 18 طرازًا مختلفًا، لكنّ تقديرات أخرى تتحدث عن كمية أكبر بكثير.
إحدى هذه الطائرات هي “غول قندهار”، اللقب الذي أُطلق على طراز RQ-170 لكثرة استخدامه في أفغانستان، بشكل أساسي للمراقَبة. والطراز الشهير الآخر هو “إم كيو-1 بريداتور”، الطراز الذي استُخدِم كما يبدو لاغتيال أنور العولقي، زعيم القاعدة في اليمن، عام 2011.
بين عامَي 2006 و2009، اغتالت الولايات المتحدة بين 750 و1000 شخص في باكستان وحدها. ووُصف نحو 20 منهم مِن قِبل الولايات المتحدة كقياديين في القاعدة وطالبان. ويُقدَّر أنّ نحو 67% من القتلى كانوا مسلَّحين في حين كان الثلث أبرياء، لكنّ هذه الأرقام تتفاوت، وهي مثيرة للجدَل.
يخضع استخدام الطائرات دون طيّار لرقابة لصيقة من الكونغرس الأمريكي. فكل شهر تجتمع لجنتا الاستخبارات في مجلسَي الشيوخ والنواب وتشاهدان فيلم فيديو لهجمات الطائرات دون طيّار لذاك الشهر، تتأملان في تقارير الاستخبارات التي تبرّر استخدامها، وتفحصان إن كانت الهجمات مبرَّرة حقًّا.
قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي ازداد كثيرًا في عهده استخدام الطائرات دون طيّار، قبل بضعة أشهر إنّ على الإدارة الأمريكيّة “أن تتوصل إلى شبه يقين قبل أي هجوم أنّ أي مدنيّ لن يُقتّل أو يُصاب، حسب أرفع مقاييسنا”. لكن قبل نحو أسبوعَين فقط، في 13 كانون الأول، قُتل 14 شخصًا وجُرح 22 في قصف لطائرة دون طيّار على حفل زفاف جرى في اليمن. “إنه ليس أوّل زفاف يقصفه الأمريكيون، ويبدو أنه ليس الأخير أيضًا”، كتبت إليسا روريخت من “هابنغنتون بوست”.
على ضوء العدد المرتفع للأبرياء الذين يُقتَلون في هجماتٍ كهذه، حين يكون الطرف المهاجِم غير معرّض كليًّا للخطر، ينشأ شعور غير مريح. فليس الحديث عن مقاتِل أو طيّار يعرّض حياته للخطر لتحقيق الهدف، بل بمشغّل يجلس في مكانٍ آمن – أحيانًا في الجانب الآخَر من العالَم، ويشاهد الهدفَ عبر شاشة. يبدو ثمن الحروب، الذي كان في الماضي لا يُحتمَل، سهلًا وبسيطًا على المهاجم، وفتّاكًا أكثر من أي وقتٍ مضى بالنسبة للضحيّة.
ليس الاغتيالات فقط
لا تُستخدَم الطائراتُ دون طيّار في مهامّ عسكرية فحسب. في السنوات الأخيرة، تنتقل الطائرات دون طيّار من ميدان الحرب إلى الاستخدامات المدنيّة أيضًا. ففي الصيف الماضي، صادقت إدارة الطيران الأمريكية على استخدام الطائرات دون طيّار المُعَدّة لتحديد هوية مصادر تسرُّب النفط وحركة الحيوانات البرية في ألاسكا وكندا.
تُمثِّل المصادقة تحوّلًا هامًّا في السياسة الأمريكية، التي قصرت حتى الآن الاستخدام الذاتي للطائرات دون طيّار داخل الولايات المتحدة بالأهداف العلميّة فقط. اليوم، تُستخدَم الطائرات دون طيّار لتحديد ومنع الازدحامات المروريّة، وكذلك لمواجهة الحوادث الجنائيّة.
حتّى إنّ منظمة حماية الحيوانات البرية في إفريقيا تخطّط لمشروع مشترَك مع شركة “جوجل” لاستخدام طائراتٍ دون طيّار لإيقاف ظاهرة الصيد غير القانونيّ. كذلك، أُعدّت طائرات “ناسا” للطيران داخل عواصف مداريّة، وللبقاء في مناطق تضربها العواصف نحو 30 ساعة، من أجل تحسين قدرات التنبؤ البشرية بمكان ظهور عواصف مُستقبَليّة.
في المجال الزراعي أيضًا، يمكن استخدام الطائرات دون طيّار كثيرًا. فيمكن تحديد النقص في الأكسجين في مناطق معيّنة ومتابعة نموّ المحاصيل. ويتنبأ مدير الطيران الأمريكي أنه حتى عام 2020، سيحلِّق أكثر من 20 ألف طائرة دون طيّار في سماء الولايات المتحدة، ولا يزال الأفق بعيدا.