إن الفرق الخيالي بين الإنسان والخالق، أدى إلى حركات روحانية في اليهودية والإسلام على حد سواء، تبنت مضامين روحانية وفلسفية عميقة في الحياة الدينية. هناك الكثير من المؤمنين اليهود والإسلام على حد سواء، الذين شعروا أن الروتين الديني للحفاظ على الوصايا، والإيمان بالخالق الذي لا يُرى ولا يسمع، لم توفر ردا على الحاجة النفسية العميقة في الارتباط الشخصي بين الإنسان والخالق.
تدعى في اليهودية هذه الحركة الروحانية “كبالاه”. يمكن العثور على كتابات روحانية في كتابات حاخامات يهود منذ نحو 1.500 سنة، ولكن تطورت الكبالاه، في جنوب فرنسا وشمال إسبانيا في نهاية القرن الـ 12 وبداية القرن الـ 13. ذُكر في التلمود البابلي نسبة إلى بابل (العراق في يومنا هذا) في القرن السادس الفقهاء الذين تطرقوا إلى أسرار خلق العالم. يقترح التلمود على الطلاب ألا يتطرقوا إلى هذه المواضيع حتى يكونوا بالغين، وبعد أن يجتازوا تأهيلا من معلم مؤهل.
تطورت الكبالاه، في جنوب فرنسا وشمال إسبانيا في نهاية القرن الـ 12 وبداية القرن الـ 13
نُشر كتاب الكبالاه الأول عام 1180 في بروفنس (جنوب فرنسا) ويدعى “كتاب بهير” (بهير هي كلمة عبرية معناها الساطع). ليس واضحا من ألف الكتاب ومتى، ولكنه يتطرق إلى أسرار خلق العالم. انتشرت الكبالاه من جنوب فرنسا في القرن الـ 13 إلى الجاليات اليهودية في إسبانا وإيطاليا.
بعد مرور نحو مئة عام من ذلك، نحو عام 1280، بدأ يظهر “كتاب الزوهار” (زوهار تعني الإشراق أو الضياء)، وهو الكتاب الأهم في الكبالاه. نشر الحاخم موسى دي ليون الكتاب ويبدو أنه ألف أجزاء كثيرة منه. حظي الكتاب باهتمام مجددا بعد طرد اليهود من إسبانيا عام 1492، وانتظارهم لمجيء المسيح اليهودي المنتظر. بعد طرد اليهود، نُقِل مركز الكبالاه من أوروبا إلى مدينة صفد في الجليل.
وصف إسحق لوريا (1534-1572) أحد مؤمني الكبالاه في صفد خلق العالم على النحو التالي: كان قبل خلق العالم إلى ما لا نهاية من الضوء. بهدف خلق العالم، كان على الخالق تقليص عالمه وإبقاء فضاء فارغ يتيح خلق العالم الروحاني والمادي.
أشار علماء معاصرون إلى العلاقة المتينة بين الروحانية في اليهودية وبين الروحانية في الإسلام، التصوف، من حيث التفكير والعمل الفعلي. اقترح إبراهيم صموئيل أبو العفيا، أحد مؤمني الكبالاه وهو إسباني الأصل من القرن الـ 13، استخدام تقينات تكرار ذكر اسم الله أثناء التنفس، الغناء، وحركات الرأس. تذكّر هذه التنقية بالصوفية الخاصة بذكر (الذِكر هو من أنواع العبادات الإسلامية والتي تعتمد على ذِكر الله). وفق الكبالاه هناك أهمية حاسمة للغة العبريّة في خلق العالم: خلق الله العالم بواسطة الأحرف العبريّة. يذكّر هذا التوجه باللغة العربية من حيث التفكير الإسلامي الروحاني.
أشار علماء معاصرون إلى العلاقة المتينة بين الروحانية في اليهودية وبين الروحانية في الإسلام، التصوف، من حيث التفكير والعمل الفعلي
وأشار أحد طلاب أبو العفيا، ناتان بن سعدية حرار، إلى قوة ذكر الله كتقنية تأمل حتى في العربية أيضا. يشير في كتابه “شعاري تصيدق” (أي بوابات الصدق) إلى أن التقنية الصوفية، ذكر، تؤدي إلى تجربة روحانية. وفق حرار، يمر المؤمنون الصوفيون بتجربة روحانية ولكن ليسوا قادرين على تفسيرها لأنهم لا يتبعون للتقاليد الروحانية اليهودية. تُذكّر كتابات الحرار بكتابات الشيخ الصوفي الفارسي شهاب الدين السهروردي جدا، الذي عاش بين القرنين 12 و 13، وتشير كتاباته إلى أنه من دون الالتزام بالقوانين الدينية والنبي محمد، فإن التقنية الروحانية تؤدي إلى طهارة النفس جزئيًّا فقط.
تأثر بعض الحاخامات المشهورين في القرون الوسطى في الإسلام الروحاني جدا. من بين المشهورين منهم هناك الحاخام موسى بن ميمون (1186-1237) مؤسس التيار الصوفي اليهودي في مصر، والحاخام بهية بن باكودا الذي عاش في الأندلس في النصف الأول من القرن الحادي عشر. متأثرا في الإسلام، أدخل الحاخام موسى بن ميمون الركعات ووضعيات الجسم أثناء الصلاة اليهودية، والتي لم يكن معمولا بموجبها حتى ذلك الحين وحتى أنها أثارت معارضة في الجالية اليهودية. حرص الحاخام بهية بن باكودا على التدرب على الطرق المذكورة في رسائل إخوان الصفا. يشير برنارد لويس، أستاذ فخري إلى أن الحاخام بهية بن باكودا اقتبس في كتاباته أقوال الصوفي السابق ذو النون مؤمنا أن القيام بالوصايا فقط لا يمكن أن يساهم في تطهير النفس، بل هناك حاجة إلى التقرّب إلى الخالق من أعماق القلب أيضًا.
تأثرت الحركات الحاسيدية التي تطورت في أوروبا الشرقية في القرن الـ 18، إلى حد كبير من الكبالاه. اعتاد يهود حسيديون على العزلة في غابات أملا منهم في التقرب من الله، واتبعوا نمط حياة الفقر والزهد مثل الزهاد في الإسلام في الزمن القديم.
ذو النون أمن أن القيام بالوصايا فقط لا يمكن أن يساهم في تطهير النفس، بل هناك حاجة إلى التقرّب إلى الخالق من أعماق القلب أيضًا
نقارن بين نمط حياة أحد الصوفيين الأوائل، بشر الحافي، وبين مؤسس الحركة الحاسيدية، الحاخام يسروئيل بن إليعزر (بعل شيم توف) (توفي عام 1760).
هذا ما كتبه الشيخ الصوفي الذي عاش في القرن الـ 11 وهو عبدالکریم قُشَیری عن بشر الحافي:
“سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: مرَّ بشر ببعض الناس، فقالوا: هذا الرجل لا ينام الليل كلَّه، ولا يفطر إلا في كل ثلاثة أيام مرة؛ فبكى بشر، فقيل له في ذلك فقال: إني لا أذكر أني سهرت ليلة كاملة، ولا أني صمت يوماً لم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقي في القلوب أكثرً مما يفعله العبد لطفاً منه، سبحانه، وكرماً”.
تذكّر هذه الأقوال بأقوال الحاخام يسروئيل بن إليعزير جدا:
“وجوهر التجرّد من (اضمحلال) المادية هو أن تكون شهوات هذا العالم كلّها كلا شيء في قلبه وعينَيه، أن يتجرد الإنسان من جميع صفاته الرديئة بفعل شوقه العظيم إلى الخالق، تقدّس اسمه” كذلك، قال أيضا: “على الإنسان أن يكون مجردا من الروحانيات وألا يشعر بوجوده في هذا العالم”.