ترجمة من العبرية
في الوقت الذي يحاول فيه نتنياهو، دون جدوى، أن يعلّم العالم التكلم باللغة العبرية، نجح الرئيس الفلسطيني بعد عقود من المثابرة بتعليم اللغة العربية الفلسطينية للعالم، أن يعلّم خاصة القضية الفلسطينية التكلم بلغة العالم. يجيد الفلسطينيون الآن التواصل مع العالم والانفتاح عليه وعلى قوانينه فيما يتعلق بالسلام والحرب. في المقابل، تنغلق إسرائيل على نفسها أمام العالم الحائر، ذلك العالم الذي يلمّح إلى إمكانية مقاطعتها في حال استمرت في إنكارها لضرورة التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين. نجح أبو مازن الذي يلصق به العديد من رجال القيادة الإسرائيلية صفة الضعف أن يضع نتنياهو وإسرائيل في موضع مواجهة غير مسبوق مع العالم وخاصة مع البيت الأبيض. ويجب ألا نخطئ: لا يقف الموضوع الإيراني فقط في مركز هذه المواجهة، بل أيضا القضية الفلسطينية.
من المحتمل أن ضعف العواصم العربية تحديدًا جعل أبو مازن، ومن قبله عرفات، يؤسسا الكفاح الفلسطيني على قواعد غير عنيفة. بالإضافة إلى ذلك، عزز إهمال الخيار العسكري قوة القضية الفلسطينية، وجعلها تتصدر مجددا جدول الأعمال اليومي الإقليمي رغم فوضى “الربيع العربي” العارمة. والآن تحظى القضية بطراوة معيّنة في أوساط الدوائر العامة، المجتمع المدني، ودوائر أكاديمية وسياسية واسعة في أوروبا وشمال أمريكا. أعتقد شخصيا أنّ تجنُّس القضية الفلسطينية وإخراجها من مسار العنف يساعدها في قبولها في أرجاء العالم كقضية كفاح أخلاقي صادق. يتبيّن أن تسخير الوسائل لهدف نبيل – التحرر من بطش الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية – هو حقا حاجة فلسطينية حقيقية ملحّة، من الصعب الفوز بنضال وكفاح صادق عندما تكون الوسائل غير نبيلة أو تؤدي إلى جباية الكثير من الأرواح، من بينهم مواطنون أبرياء.تبدو القيادة الإسرائيلية متكبرة ومتعجرفة، وتتجاهل التغيير الكبير الحاصل لدى الجانب الفلسطيني، والذي يظهر من خلال التنازلات الكبيرة التي قاموا بها فيما يتعلق بشروط التوصل إلى اتفاق ممكن، وباختيار استراتيجي بواسطة المفاوضات والدبلوماسية. وأيضا عندما عبثت إسرائيل بثلاث مغامرات حربية دامية ومدمّرة ضد حماس في قطاع غزة، لم تتنازل السلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن عن هذا الخيار. بكلمات أخرى، على الرغم من رغبة حماس بـ “إشعال الضفة الغربية تحت أقدام المحتلين الصهاينة”، وعلى الرغم من تدخل دول ليست ودية مع السلطة، مثل قطر وتركيا، بقيت السلطة الفلسطينية متمسكة بالطريق الأكثر استقلالية الذي تمسكت به خلال التاريخ الفلسطيني.
نجحت القيادة الفلسطينية بعزل نضالها عن مصنع الإرهاب للقاعدة، وذلك عن طريق اختيارها خيار التجنّس في الوقت الصحيح
إن نجاح القيادة الفلسطينية في قطع العلاقة بين حركات الإرهاب العالمي، ومن بينها الحركات ذات التوجه الإسلامي المتطرف، وبين القضية الفلسطينية يعتبر إنجازًا جديرًا بالذكر. لم يستطع أسامة بن لادن ونائبه، د. أيمن الظواهري، أن يستقطبا النضال الفلسطيني إلى دائرة الحرب ضد “الكفار الغربيين” و”المجرمين الصهاينة”، وأكثر من ذلك، نجحت القيادة الفلسطينية بعزل نضالها عن مصنع الإرهاب للقاعدة، وذلك عن طريق اختيارها خيار التجنّس في الوقت الصحيح. أدى هذا الانقطاع بين الحلبات إلى المساهمة الحاسمة في إحياء القضية الفلسطينية وتدويلها من جديد، بالرغم من محاولات إسرائيل الكثيرة لطمسها وإخفائها تحت طبقات جديدة من الإسمنت تابعة للاستيطان والمستوطنين.
في المقابل، لم تتجاهل القيادة الإسرائيلية من القضية الفلسطينية وتنكرها فحسب، بل أيضا اعتبرتها قضية ستختفي من تلقاء نفسها. اليمين الذي تصوّر أن “الفوضى العربية” ستستقطب إلى داخلها القضية الفلسطينية وأبو مازن الذي لا يُعتَبَر “شريكا”، أو أن محمد دحلان سيستبدل أبو مازن الذي أبعده، ويُفرح ويريح ليبرمان. بالمقابل، تأمل قيادات اليمين أن القضية الإيرانية ستتعاظم إلى درجة تبتلع وتخفي بين طياتها القضية الفلسطينية أو تبعدها جانبا. ومن كان يأمل أن الحلف غير المعلن عنه مع الدول العربية المعتدلة سوف يحرر إسرائيل من القضية الفلسطينية فقد أخطأ.
عقيدة “إدارة النزاع” التابعة لنتنياهو غير واقعية، وعلى ضوء المثابرة الفلسطينية في النضال السياسي-الدبلوماسي، يجب على إسرائيل أن تقترح اقتراحا ما من أجل تجديد وتسيير المفاوضات
أعتقد أن أبو مازن سيتمسك بالخط السياسي-الدبلوماسي الذي أداره. والأمور التي لم تنجح بواسطة الدبلوماسية ستنجح بالمزيد من الدبلوماسية، وذلك لأنه هناك شعور أيضا في الجانب الفلسطيني من الإرهاق والملل بسبب العنف والتصعيدات. الضفة الغربية مشبعة بالكفاحات المحلية غير العنيفة، من بينها الكفاح ضد مسار الجدار في بلعين، كما ويطالب الفلسطينيون المحاكم الإسرائيلية بالعدل، وعلى رأسها المحكمة العليا. تشكل السلطة الفلسطينية مظلة كبيرة لهذا التوجه مثل التوجه لمؤسسات دولية مختلفة. وهذا ليس خيارا تكتيكيا، وإنما مبدئيا: اكتشف الفلسطينيون من جديد قوة ضعفهم، ذلك الضعف الذي أبرزته الانتفاضة الأولى أكثر من أي شيء. إن الحفاظ الدؤوب على هذا الخط سيجلب للفلسطينيين دعما كبيرا من قبل دول العالم على حساب إسرائيل، وذلك في حال استمرت الحكومة القادمة في إسرائيل بالتملص من واجبها لحل القضية الفلسطينية.
يبدو أن عقيدة “إدارة النزاع” التابعة لنتنياهو وليبرمان غير واقعية، وعلى ضوء المثابرة الفلسطينية في النضال السياسي-الدبلوماسي، يجب على إسرائيل أن تقترح اقتراحا ما من أجل تجديد وتسيير المفاوضات. إن تصعيدا إضافيا سيؤدي بحياة إسرائيليين وفلسطينيين عبثا، تماما كما حصل في عمليتي “عمود السحاب” و “الجرف الصامد”.
نشر هذا المقال في الأصل باللغة العبرية على موقع Can Think