لطيف أن يكون المرء ألمانيًا في هذه الأيام. الاقتصاد مستقر، المكانة الدولية رفيعة جدًا، حظيت أنجيلا ميركل أن تتلمس كأس العالم وحتى أن هناك بعض الإسرائيليين، غريبي الأطوار، الذين يلتقطون صورًا لهم وهم يرقصون حاملين لافتة كُتب عليها “هاجرت إلى برلين”. أحد أكبر الاختبارات التي تواجهها ألمانيا الجديدة هو مواجهتها للأشياء المروّعة التي ارتكبتها ألمانيا السابقة. نجح الألمان باختبار التذكر ولا يحاولون أبدًا تجميل الماضي الإجرامي، ولكن، بعد 70 عامًا تقريبًا على انتحار هتلر داخل مقره المحصن، ترعرع في برلين جيل من الألمان الجدد – شبان مسلمون لم يخدم أي واحد من جدودهم في الـ “أس. أس” ولا يحملون أي عبء أخلاقي مما لحق بالشعب اليهودي.
اجتمع، في أحد أيام شهر آب الأخير وفي أوج عملية الجرف الصامد، 200 شخص من أولئك الألمان الجدد و 100 من الألمان “القدماء” قرب نقطة التفتيش “تشارلي” – نقطة العبور الأشهر في جدار برلين – للتظاهر ضد “الإبادة الجماعية” التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين. أظهرت جولة لي بين مئات المتظاهرين، بينما تنكرت بشخصية سويدي ريفي عادي، بعض الحقائق المتعلقة بمجريات الأمور التي تحدث في الدولة التي أوشكت على إبادة الشعب اليهودي.
تم تنظيم التظاهرة من قبل الائتلاف من أجل تحرير غزة – المنظمة التي شاركت مع منظمات أُخرى بتنظيم أسطول مرمرة. تضمنت منشورات مع خريطة فلسطين (أرض إسرائيل) التي وُزعت في التظاهرة فقط اسم “فلسطين”، دون أي ذكر لدولة إسرائيل الواقعة داخل مناطق الخط الأخضر. بالمقابل، رفع بعض الشيوعيين لافتات تحمل معادلات رياضية تساوي بين الصليب المعقوف ونجمة داوود وبين النازية والصهيونية. يحظى مصطلح “لن يحدث ذلك بعد الآن” بمكانة تاريخية ملفتة.
رفع سلفيون ملتحون أعلام حزب التحرير – حركة تطالب بإقامة الخلافة الإسلامية ضمن مناطق الإمبراطورية العثمانية سابقًا – تمامًا مثل أفراد داعش. فرحوا جدًا باهتمامي الشديد بإخوتهم الفلسطينيين، إنما لا شك أنهم كانوا سيُظهرون تعاطفًا أقل بكثير معي إن عرفوا أنني من الشعب الذي يجب أن “يُمحى من فلسطين”، كما صرح أفراد المنظمة بعد حادثة مرمرة. هتفوا ضد المستشارة أنجيلا ميركل التي يزعمون أنها تُسلح الصهاينة بالغواصات (هذه إشارة إلى الغواصة الجديدة التي اقتناها الجيش الإسرائيلي، غواصة الدلفين)، ولكنهم لم يستبعدوا اليوم الذي يكون فيه أشخاص أمثالهم هم أصحاب القرار في الدولة.
استعد المسلمون، الشيوعيون والألمان ذوو العيون الزرقاء لبدء المسيرة في شوارع برلين. رددوا بصوت أجش نشيد التظاهرة – “من النهر حتى البحر، ستكون فلسطين حرة” – الذي تم اقتطع كلماته من خطابات رائد حقوق الإنسان، إسماعيل هنية. أردت أن أسألهم عن مستقبل عائلتي في حال تحققت أمنيتهم، وإن تمكنت حماس بالفعل من تحرير فلسطين، ولكنني أخذت الإجابة من عيونهم المليئة بالحقد.
هجرة دون ولادات جديدة
تم عام 2001 تقديم تقريرللمستشار الألماني في حينه، غيرهارد شرودر، والذي يتحدث عن أنه على إثر التراجع الحاد في عدد الولادات لدى النساء الألمانيات وعجز المجتمع عمومًا من المتوقع أن يشكل عدد الألمان في الـ 50 سنة القريبة ثلث عدد السكان. استنتاج واضعي التقرير هو أنه لن يكون أمام ألمانيا حل غير السماح بدخول نحو 50 ألف مهاجر كل عام إلى البلاد. قرر الألمان إلغاء 40% من القوانين القديمة وفتحوا أبواب دولتهم أمام المهاجرين من الدول التي ليست ضمن الاتحاد الأوروبي ليتم تشغيلهم في الأعمال اليدوية مثل عمال النظافة، عمال التمديدات الصحية، وسائقي القطارات وغير ذلك.
وصلت العملية الطويلة إلى ذروتها عام 2012 عندما وصل إلى ألمانيا 1.08 مليون مهاجر جديد – أكبر كمية في آخر عشرين عامًا. تحوّلت ألمانيا إلى الدولة الثانية، من بين الدول النامية من حيث نسبة المهاجرين الوافدة إليها والتي يتم استيعابها على أراضيها، بعد الولايات المتحدة. وتشير التقديرات إلى أن 5% من عدد السكان الألمان هم مسلمون – أكثر من النسبة الموجودة في أي دولة من دول الاتحاد الأوروبي ما عدا فرنسا. ستصل نسبة المسلمين في ألمانيا، حسب الغارديان، إلى 7% حتى عام 2030.
لا يمكن اعتبار تدفق المسلمين إلى ألمانيا كنجاح لداعمي تعدد الثقافات. أظهرت أبحاث أُجريت في الولايات المتحدة وألمانيا في العامين الأخيرين أن 80% من المهاجرين الأتراك في ألمانيا، والذين يشكلون الأغلبية بين المسلمين في الدولة، يتم دعمهم بشكل أو بآخر من قبل مؤسسات الرعاية الاجتماعية الألمانية. يُفضل المسلمون أيضًا السكن بعيدًا عن الألمان البيض، و 46% منهم عبّروا عن رغبتهم بأن يروا ألمانيا وفيها غالبية مسلمة. ربط، من الجهة الأخرى، 70% من الألمان القدماء الدين الإسلامي بمصطلحات مثل التشدد والتطرف.
في حين ادعت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، عام 2010 أن فكرة تعدد الثقافات فشلت في ألمانيا، إلا أن ذلك الأمر لم يمنع المسؤولين في مدينة دويسبورغ، القريبة من الحدود الهولندية، أن يقرروا تحويل كنائس قديمة إلى مساجد. حتى أنه في منطقتين من دويسبورغ عدد المسلمين أكبر من عدد المسيحيين. تم إغلاق أكثر من 500 كنيسة في ألمانيا، بين عامي 2000 – 2012، وقريبًا سيتم هجر 700 كنيسة أُخرى. بالمقابل، تم بناء أكثر من 200 مسجد في الدولة و 128 مسجدًا آخر يُتوقع أن تُبنى في السنوات القريبة. حظيت هذه الظاهرة بعناوين عريضة، في الصحف الألمانية، مثل “المسيحيون يخرجون، المسلمون يدخلون”؛ “الواقع الجديد”؛ و”عندما تُبنى المساجد بدل الكنائس”.
حدث عام 2012 تغيير في رأي ميركل بخصوص وسط المهاجرين، عندما ناشدت الألمان القدماء في دولتها بأن يُظهروا “التسامح” تجاه المسلمين في البلاد. بدأت في كانون الثاني المنصرم، واستمرارًا مباشرًا لذلك النهج، مدارس ابتدائية في فرانكفورت بتمرير دروس لطلابها عن الإسلام بهدف تحسين اندماج المسلمين ومحاربة الأفكار العنصرية”.
https://www.youtube.com/watch?v=tVJ9Bdt_7hc
يُهاجمون ويسكتون
لا تحقق الدروس التي تعطى لأطفال فرانكفورت، حتى الآن، نجاحًا في عالم الكبار. يطالب عمال مسلمون من المسؤولين عنهم إجازات خاصة بما يتلاءم مع أعياد المسلمين، ويطلبون من زملائهم في العمل عدم تناول الطعام أمامهم في فترة الصوم في رمضان. أقام بعض المسلمين في مدينة فوبرتال شرطة شريعة حيث يتجول أفرادها بين أماكن الترفيه ويحاولون إقناع الرجال بالإقلاع عن شرب الكحول وإقناع النساء بتغطية أجسادهن بما يتلاءم مع تعاليم الإسلام. أبدت السلطات الألمانية نيتها مواجهة هذه الظاهرة. كشفت الشرطة الألمانية في العام الماضي أنه منذ انهيار الجدار عام 1990، قُتل 7500 مواطن ألماني ووقعت 3 ملايين عملية هجوم على مهاجرين مسلمين.
دفعت تلك المشاحنات المتزايدة بين الألمان القدماء والمسلمين في شهر تموز الأخير نائب تحرير صحيفة “بيلد”، نيكولاس باست، أن يكتب مقالة يشجب فيها التعامل “الوحشي” للإسلام ضد أي شيء مختلف عنه. دعا باست أيضًا إلى تشديد قوانين الهجرة إلى البلاد. أثارت هذه المقالة موجة عارمة من السخط في أوساط حزب “الخضر”، ووصف ولكر باك باست بأنه “عنصري” وطالب صحيفة “بيلد” بالاعتذار عن التصريحات. نشر محرر صحيفة “بيلد” بسرعة بيانًا يؤكد فيه على أن الصحيفة “تعارض أي نوع من التعميم” وأن الصحيفة تحترم “الحوار بين الأديان”.
لا يستثني تنامي الإسلام المتطرف ألمانيا أيضًا. أحصت الحكومة الألمانية عام 2012 عدد السلفيين المتطرفين في البلاد ووصل العدد إلى 5500 شخص وصرح مسؤول حكومي لصحيفة نيويورك تايمز قائلاً أنه منذ ذلك الوقت قد “ازداد العدد”. قامت الشرطة الألمانية بوضع ثلاثة تيارات سلفية متطرفة على قائمة التنظيمات الخارجة عن القانون، إنما جدير بالذكر أن حزب التحرير أيضًا تم ضمه إلى قائمة التنظيمات الخارجة عن القانون عام 2003، إلا أن هذا الأمر لم يمنع من أن ترفرف أعلام الحركة في المظاهرة ضد إسرائيل. تم خلال عام 2011 توقيف شخصين مسلمين من أصل أفغاني بتهمة الانتماء لتنظيم القاعدة. تم، خلال اعتقالهما، ضبط أكثر من 100 وثيقة تُشير إلى عشرات العمليات الإرهابية التي خطط لها التنظيم الإرهابي، من بينها تفجير سكة القطار في بون. تمت إدانة المتهمين في عام 2012 ولكن جاء الحكم خفيفًا بمجمله إذ حُكم عليهما بالسجن مدة 15 عامًا.
أكدت عملية “الجرف الصامد” الفارق بين الحكومة الألمانية والشعب. نشرت BBC في شباط الأخير، قبل أشهر من بدء العملية، استطلاعًا أظهر أن 14% فقط من الألمان يدعمون إسرائيل. “أنا أعتقد أن الوضع أسوأ بكثير حتى”، قال آفي بريمور، السفير الإسرائيلي السابق في ألمانيا وفي الاتحاد الأوروبي، فيما يخص هذه المعطيات. “الألمان عمومًا وتحديدًا ميركل، حساسون جدًا فيما يتعلق بذكرى الهولوكوست ولكن رأي الشعب في حالة تغير ولا يمكن تجاهل ذلك”. دعمت المستشارة الألمانية، آنجيلا ميركل، حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها بمواجهة صواريخ حماس وحتى أنها دعمت عملية الجيش الإسرائيلي رغم موت الأطفال الفلسطينيين الأربعة على شاطئ غزة نتيجة قذيفة ألقاها سلاح الجو.
بخلاف ميركل المناصرة لإسرائيل، هتف المتظاهرون في شوارع برلين والذين غالبيتهم من المسلمين بأن يتم وضع اليهود في غرف الغاز” وطلب الواعظ أبو بلال إسماعيل، المواطن الدنماركي وخطيب مسجد كوبنهاغن، من مناصريه الصلاة “من أجل موت اليهود”. تم اقتياد إسماعيل، بعد تصريحاته هذه، لتحقيق قصير والذي انتهى ببدء إجراءات قضائية بحقه. سمح رجال الشرطة، في مظاهرة أُخرى في برلين، للمتظاهرين بأن يستخدموا مكبّرات الصوت لإلهاب مشاعر المتظاهرين من خلال إطلاق شعارات مثل “إسرائيل قاتلة الفلسطينيين” و “الله أكبر”. تم اتخاذ قرار في بلدية برلين، على إثر تزايد حالة التوتر، بتأمين كل المؤسسات اليهودية في المدينة – بدءًا من مجمع الجالية اليهودية وصولاً إلى أكبر كنيس في المدينة.
https://www.youtube.com/watch?v=17-PyB_e92M
انتهت عملية “الجرف الصامد” وحاليًّا أنظار العالم متجهة إلى الحرب ضد الدولة الإسلامية (داعش). عدد المقاتلين، من أصول ألمانية، والذين يقاتلون في صفوف داعش في سوريا يُقدر بين 600 – 1000 مقاتل وبينهم حتى من خص المستشارة الألمانية بأغنية يعدونها فيها بأنهم سيعودون إلى وطنهم. اتخذت ميركل، التي صرحت بأن “داعش يشكل خطرًا على أوروبا”، قرارًا هامًا وهو تسليح القوات الكردية التي تقاتل داعش بصواريخ مضادة للمدرّعات وأسلحة خفيفة. يشير تسليح الأكراد على ما يبدو إلى أن عصر عدم التدخل، الذي اتخذته ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قد انتهى. قال وولكر بارست، رئيس المعهد الألماني لشؤون الأمن والعلاقات الدولية: “هذا أمر لم يحدث سابقًا. “هذا قرار يشير بشكل واضح إلى أن هناك تغيير يحدث في ألمانيا”.
نُشرت هذه المقالة لأول مرة في موقع Mida