في الآونة الأخيرة يظهر الإسلام السياسي علامات الانزعاج الذاتي. هكذا تسير الأمور في حركة النهضة في تونس، وفي حركة الإخوان المسلمين في مصر والأردن. تبنّت حركة النهضة في مؤتمرها قبل نحو شهر، بعد تردد كبير، اقتراح زعيمها، راشد الغنوشي، وهو قبول مبدأ الفصل بين الدين والدولة. منذ ذلك الحين يدعي زعماء الحركات الإسلامية في دول مجاورة أنّ هذا الفصل قد يحدث في أقاليمهم أيضا.
فازت حركة النهضة في الانتخابات الأولى في تونس بعد الإطاحة بالرئيس بن علي. ورغم أنها دعت أحزابا علمانية للدخول في الحكومة برئاستها، فقد طمحت إلى وضع حدّ للعلمانية في تونس. عرّضَت حكومة الغنوشي نفسها أمام الكثير من النقاد في أعقاب الكشف عن الإكراه الديني، العنف وطغيان الغالبية، بل وحتى اغتيال خلايا إسلامية لزعماء سياسيين يساريين وعلمانيين. فشلت الحكومة في تهدئة الأوضاع وتعزيز الاستقرار، وبالطبع في تنفيذ الكثير من وعودها للمواطنين المتمرّدين.
جاء قرار الحركة حول فصل الدين عن الدولة بعد خسارتها في الانتخابات العامة قبل نحو عام ونصف. تتميز الحكومة الجديدة في تونس في التوجه العلماني والخطاب المؤيد للفصل التام بين الدين والدولة، كما يليق بـ “دولة متحضرة” – هذا هو حال الائتلاف والأحزاب الجديدة والصغيرة التي تصارع الرموز الدينية التي أورثها حكم النهضة قصير الأمد.
فرضت تونس، ذات التاريخ العلماني، وشريحة سكان المدن القوية والطبقة الوسطى الواسعة والثرية، على حركة النهضة أن تتغير وتلائم نفسها مع الواقع الجديد. وقد رفض الشعب التونسيّ، المنظّم في أحزاب وحركات فكرية متنوعة، قبول حركة تسعى إلى إعادة التاريخ إلى الوراء وتطبيق الشريعة، حتى ولو بصيغة منفتحة ومتطورة. أعرب المواطنون عن معارضتهم العنيدة وربطوا بين الإكراه والخطاب الديني الإسلامي وبين المركزية، الفساد والقمع وكل ما سبق ثورة 2011. والآن أصبحت حركة النهضة حزبا كسائر الأحزاب. وعليها أن تقنع المواطنين ليس بقوة الله وعطفه ولا بقدرة الإسلام أن هو الحل، وإنما بقدرتها الذاتية، كلاعب سياسي يخضع للرقابة، قادر على إحداث تغيير حقيقي يلبي حاجة المواطن التونسي الماسّة.
لم تكشف جميع حركات الإسلام السياسي في المنطقة عن عدم وجود علاقة بين الله وبين الإدارة السليمة للاقتصاد والدولة. أصبحت حركة الإخوان المسلمين في الأردن، في هذه الأيام، في قلب العاصفة وهي على شفا الانقسام إلى ثلاث حركات منفصلة. والآن تُمارس ضغوط كبيرة عليها، من الداخل والخارج، لتتماشى مع دستور النظام الهاشمي، وتعمل كحركة وطنية أردنية وأن تقطع علاقتها مع حركات الإخوان المسلمين في المنطقة، ولا سيما مع حماس. تعكس مبادرة “زمزم” ومبادرة “الشراكة والإنقاذ”، والتي يدعي البعض أن النظام الهاشمي يقف خلفهما، أيضا الضغط الداخلي الذي تُمارسه جهات ذات مناصب متوسطة ورفيعة في الحركة للاندماج في السياسة الأردنية اندماجا كاملا. تتجه الحركة نحو الحسم، ووفقا لأحد التفسيرات فستنقسم إلى ثلاث مجموعات: مجموعتان ذواتا سكان تعود جذورهم إلى عبر الأردن، والذين يقبلون قواعد اللعبة التي حدّدها النظام، والمجموعة الثالثة، المرتبطة بحركة حماس الفلسطينية، ستبقى وفية لمبدأ “الإسلام هو الحل”.
وهناك جدل صاخب أيضًا داخل الحركة الأم للإخوان المسلمين في مصر. وقد أثارت الضغوط الداخلية والخارجية توترا علنيا وكبيرا بين الدوائر التي تحاول تحويلها إلى حركة سياسية تخضع لقوانين الدولة، وبين دوائر وفية للنهج المحافظ والمتشدّد الذي ينادي بتحويل مصر إلى دولة شريعة، كخطوة أولى في الطريق نحو إقامة الخلافة الإسلامية في المنطقة. ومن الواضح أنّه لا ينبغي فصل هذه الضغوط عن حملات الملاحقة وقمع نظام السيسي لحركة الإخوان المسلمين.
أثار السعي نحو سياسة الاستبداد في مصر في سنة حكم الرئيس مرسي مجددا الشعب المصري والنخب الخائفة وأخرج نحو 25 مليون شخص للاحتجاجات في الشارع. إنّ الشعور بالخطر والذي شعر به الأردنيون على ضوء “مناورات” الإخوان المسلمين في المملكة في الأشهر الأولى من الربيع العربي شوّش قدرتها على العمل في المجال السياسي ومع السلطات. ولكن الفظائع التي ضربت المنطقة تركت أيضًا طابعها على هذه الحركة الشرق أوسطية، بعد أن أصبحت بعد الربيع العربيّ وبفضله لاعبا رئيسيا في المنطقة.
للوهلة الأولى، كان يبدو أنّ الإخوان المسلمين يلمسون النقطة الأكثر حساسية في التاريخ العربي. إن تفكُك الدولة في سوريا، السودان، اليمن وليبيا أخرج الريح من أشرعة حركة الإخوان المسلمين ودفعها إلى التجمع داخل حدود الدولة وإظهار المسؤولية. وقد خرج بقية اللاعبين أيضًا، بطبيعة الحال، للدفاع عن مصالحهم على ضوء الفظائع، مع الحرص على إطار الدولة كأساس للسياسة، مما يعارض، على الأقل، أيديولوجيا، نهج الإخوان المسلمين. أثار الظهور التهديدي للإسلام المتطرف العنيف في المنطقة في حركات الإخوان المسلمين أيضًا الحاجة إلى تمييز نفسها عنه من خلال الحوار واستعدادات مختلفة.
يعتقد خبراء عرب يتابعون الإسلام السياسي في الشرق الأوسط أنّ التغييرات في حركة الإخوان المسلمين في المنطقة قد تدلّ على تغييرات عميقة في تطوّرها. ولكن يُمكن اعتبار هذه التغييرات على أنها براغماتية ومطلوبة على ضوء التجربة العملية لتنظيمات الإخوان المسلمين في دول المنطقة. فإنّ اختبار التنظيمات السياسية ليس بكتاباتها وأفكارها وإنما بأفعالها واسقطاتها. يتضح أيضًا أن الحركة الجماهيرية التي تدعي العلاقة مع الله تتصرف كآخر التنظيمات السياسية على الأرض: بداية بالتجربة والخطأ، وأيضا سقوطها وتغييراتها بالتجربة والخطأ.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي