تعتبر مدينة معان جنوب الأردن مدينة بدوية، والتي تسبّبت دومًا بالصداع للسلطة. سكّانها تقليديّون جدّا، وفيها الكثير من الأشخاص المنتمين للتيار السلفي. اندلعت في المدينة مظاهرات في الماضي، بعضها انزلق للعنف؛ وحدثت بسبب أسعار الغذاء، وأسعار الوقود، ولأن السلطة لا توفّر احترامًا كافيًّا لرؤساء القبائل الذين يعيشون فيها. وتحوّلت معان مع الوقت إلى “مقياس حرارة” للأردن، وهي التي كشفت للعالم عن التيارات الكامنة تحت السطح للحالة المزاجية في المملكة.
في ظهيرة يوم الجمعة الماضي، 20 حزيران 2014، انطلقت في معان مظاهرة رُفعت فيها رايات داعش السوداء. كانت التسمية التوضيحية المرفوعة على اللافتات لا لبس فيها: “جمعة نصرة الدولة الإسلامية في العراق والشام – معان فلوجة الأردن – تنصر دولة الإسلام”، “نبارك للأمة الإسلامية بالفتوحات العمرية التي منّ الله على الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
وقد أُطلقتْ في المظاهرة دعوات عالية وتاريخية. بعضها معروف أكثر، مثل: “الله أكبر”، “الجهاد”، “الموت ولا المذلّة”، “بالروح بالدم نفديك يا إسلام”، و”الدولة الإسلامية باقية”. وبعضها الآخر أكثر تميّزًا، ويعطي الطابع الفريد للمتظاهرين: “لا إله إلا الله والشيعي عدوّ الله”، “والمجاهد حبيب الله”، “والسنة أحباب الله”، “الله مولانا ولا مولى لهم” (يقصدون الشيعة)، “مولاهم الطاغوت”، “يا حكّام الشيعة جينا”. وقد عبّر إطلاق النار نحو السماء بشكل جيّد عن جدّية نوايا المتظاهرين.
https://www.youtube.com/watch?v=IQERKn2EEM4&feature=youtu.be
في الفيلم: توثيق المظاهرة المؤيّدة لداعش في مدينة معان
ولكن الجزء الأهم هو حقيقة أنّه فيما عدا أفراد قلائل، فكان جميع المشاركين في المظاهرة مكشوفي الأوجه، أي لا يخشون من الحكومة الأردنية، من المخابرات والشرطة. وقد رأى المُتظاهرون أيضًا الرجل الذي قام بتصوير المظاهرة ولم يقوموا بشيء ضدّ توثيقه، رغم أنّهم يعرفون جيّدا أنّ النظام قد يستخدم هذه الأفلام من أجل الكشف والإمساك بالمشتركين في المظاهرة. وحين يختفي الخوف من الدولة، فإنّ كلّ عمل قد يصبح متوقّعًا.
لم يخف تنظيم داعش – “الدولة الإسلامية في العراق والشام” – أبدًا نواياه تجاه الأردن، والتي أُنشئت هي أيضًا كالعراق والشام من قبل الاستعمار الأوروبي، ولذلك فحكمها الهلاك. بل إنّ اسم التنظيم يدلّ على هذه النوايا، حيث أنّ منطقة “الشام” تشمل في الواقع سوريا، لبنان، الأردن وفلسطين (أرض إسرائيل).
ولتوضيح نواياه تجاه الأردن وسّع التنظيم من مساحة سيطرته في العراق باتجاه الغرب، وصولا إلى الحدود بين العراق والأردن، واحتلّ المدينة الحدودية طرابيل. تثير انتصاراته في العراق وسوريا “الأدرينالين الجهادي” لدى السكان المهمّشين في الأردن، وتعكس المظاهرة في معان ما هو معروف للجميع: يجذب انتصار داعش الحشود، وخصوصًا أولئك المتواجدين في الهوامش، والحريصون على الانتماء أخيرًا إلى تنظيم ناجح. وإذا كان هذا الشيء الناجح سيضع حدّا للحكم القمعي، فبالتأكيد يجب الانضمام إليه.
الزعيم والجدل
الرجل الذي يُعرّف كزعيم التيار السلفي الجهادي في الأردن هو عصام البرقاوي، الذي يكنّى أبو محمد المقدسي. وُلد في قرية برقة قرب نابلس في 3 تموز عام 1959 (سيحتفل بعد نحو أسبوع بيوم ميلاده)، ودرس الدراسات الإسلامية في الموصل والمدينة. نشر في الماضي كتابًا ادعى فيه أنّ النظام السعودي يفتقد إلى الركيزة الشرعية. وهو الأب الروحي لأبي مصعب الزرقاوي، الذي أسّس عام 2004 “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، وهو التنظيم الذي أصبح فيما بعد “الدولة الإسلامية في العراق والشام” – داعش. مكث البرقاوي فترة من حياته في باكستان وأفغانستان، والتقى هناك بزعماء القاعدة ومرشديها. حاكمه النظام الأردني لفترة طويلة في السجن، وينشر من داخله تعليماته لمؤيديه.
هناك من يدّعي في التيار السلفي الجهادي في الأردن أنّ المقدسي يؤيّد سيطرة “الدولة الإسلامية” على العراق، ولكنه لا يؤيّد توسيع نشاط التنظيم إلى داخل الأردن. أيد هذا الادعاء ناشط بارز آخر، وهو محمد الشلبي المكنّى “أبو سياف”، والذي أدان مظاهرة معان وادعى أنها “مشبوهة” (مؤامرة من الحكومة التي تريد تدمير الحركة الجهادية) واشترك بها فقط عشرين أو ثلاثين شخص، بما في ذلك خمسة شبان (وليسوا من المسؤولين) والذين تمّ “غسل عقولهم”، وهي لا تمثّل التيار السلفي ولا تخدمه”. ومع ذلك، فإنّ أبي سياف أيضًا يخفي تأييده لداعش وللمذابح الجماعية التي ينفّذها التنظيم بالشيعة في العراق، وخصوصًا بجنود النظام. وبالنسبة للأردن فالوضع يختلف، حيث نعم – وفق كلامه – هناك جزء من رجال التيار السلفي الجهادي في الأردن يؤيّدون داعش وبالمقابل يؤيد جزء تنظيم جبهة النصرة، ومن المعروف أنّ هذين التنظيمين السلفيين الجهاديين – الذين يعملون ضدّ نظام الأسد في سوريا – يقاتلان بعضهما البعض أيضًّا.
ولكن، سيزول الجدل داخل الأردن حين تبدأ داعش بعملياتها العسكرية ضدّ الأردن. ستبدأ هذه الخطوة حين تتسلّل مجموعة من مقاتلي داعش، ممّن يتحدّثون باللهجة الصحراوية الأردنية، من العراق إلى داخل الأردن، وتظهر بوجوه مغطاة أمام الكاميرات وتعلن عن “بيعة”- حلف القسم- لأبي بكر البغدادي، وتبدأ بمهاجمة دوريات الجيش الأردني، حواجز الطرق التابعة للقوات الأمنية، مواقع الجيش الصغيرة والسيارات المدنية.
طريقة العمل
طريقة عمل التنظيم معروفة: يكتسب قوة مكوّنة من بضع عشرات من المركبات 4×4 السريعة، والتي تُركّب عليها رشاشات ثقيلة. يشغّل بعض المقاتلين صواريخ آر بي جي، وبعضهم أسلحة خفيفة، وبشكل عام بنادق هجومية من نوع AK-47 كلاشينكوف. وقد انضمّت إلى ترسانة التنظيم مؤخرًا كمية كبيرة من السلاح الأمريكي الجديد والفتّاك، مباشرة من مخازن الجيش العراقي التي سقطت بأيدي التنظيم. تداهم هذه القوة الكبيرة والعدوانية فجأة الموقع العسكري، نقطة التفتيش أو الدورية، في وضع يكون لها فيه ميزة تكتيكية كبيرة عن القوة المهاجَمة بسبب عدد مقاتليها، قوة النيران التي تملكها، التنقّل الكبير للقوة وعنصر المفاجأة.
يهتمّ التنظيم بتوثيق المعارك ونتائجها بالفيديو والصور، وبشكل أساسي القتل الجماعي للجنود والمواطنين الذين سقطوا بيديه، وذلك لزرع الخوف في أوساط معارضيه. تكون وجوه مقاتلي التنظيم مغطّاة بشكل عام بعناية، حيث لا يمكن لأحد أن يتعرف على هويتهم في المستقبَل وأن يقدّمهم للمحاكمة والمحاسبة على أعمالهم. تشكل الصور المخيفة التي ينشرها التنظيم أحد العوامل التي أدت بالجيش العراقي، الذي كان يُفترض به الدفاع عن مدينة الموصل، أن يهرب ويغادر المدينة تحت رحمة داعش.
وفي الأردن “نرى أصوات” داعش، وهناك عدد لا بأس به من الأشخاص الذين ينتظرون بفارغ الصبر انجذاب روح الجهاد إلى المملكة، والتي تهبّ بقوة كبيرة من الشرق (العراق) والشمال (سوريا) باتجاه الصحراء الأردنية. حتى لو كانت هناك اليوم معارضة لداعش في الأردن، فمن المرجح أنه حين يبدأ التنظيم بنقل عملياته إلى أراضي الأردن فإنّ المعارضة ستختفي، وخصوصًا إذا حقّق الجهاد انتصارات ضدّ الأردن. “تُقنع” الانتصارات القبائل والأفراد للانضمام إلى التنظيم، تمامًا كما يحدث في سوريا والعراق، سواء من الخوف أو من رغبة المشاركة في النصر. من الواضح للجميع أنّ الأردن لن يكون الهدف النهائي لداعش وإنما نقطة انطلاق يستمر من خلالها في الجهاد ضدّ الكيانات غير الشرعية الأخرى والتي أنشأها الاستعمار الغربي واتفاقيات سايكس – بيكو؛ إسرائيل والسعودية.
غور الأردن: رصيد استراتيجي لا يمكن الاستغناء عنه
في مثل هذه الحالة، فسيكون الخيار الذي يلبّي مطالب كلّ من إسرائيل والغرب بقوة واضحًا وحادّا كالشفرة: من جهة، سيكون هناك من يقول إنّ الشأن الأردني لا يمسّ بنا، وإذا حُكم على النظام الهاشمي في الأردن بالسقوط تحت أقدام الجهاد فنحن لا نستطيع إنقاذه، أيضا حتى مقابل دفع ثمن دماء الجنود الإسرائيليين. ولذلك، فمن غير المجدي أن نحاول على الإطلاق. علينا أن ننتظر حتى يصل الجهاديون إلى حدودنا وهناك سنتعامل معهم كما يجب. إلى جانب ذلك، فلو قامت دولة أخرى بعد سقوط الأردن، نستطيع أن نقول إنها دولة فلسطينية وإنّه ليست هناك أهمية لإقامة دولة فلسطينية أخرى في الضفة الغربية (بالإضافة إلى تلك القائمة منذ سبع سنوات في غزة).
من جهة أخرى، من المحتمل جدّا أن يهرع العالم – والولايات المتحدة خصوصًا – إلى إنقاذ الأسرة الهاشمية المالكة، حتى لا تسقط هي أيضًا بيد الجهاد. في مثل هذه الحالة فسيتوقع البيت الأبيض من إسرائيل أن تشارك في العملية. ورغم كلّ شيء، فإنّ المملكة الأردنية ما زالت تمثّل من وجهة نظر إسرائيل نوعًا من الحماية من رياح الجهاد الشرقية القادمة من العراق، وربما في المستقبَل من إيران أيضًا. هل تستطيع إسرائيل أن تجلس مكتوفة الأيدي، حتى لو تجنّد أصدقاؤها في الولايات المتحدة وربما في أوروبا أيضًا لمساعدة الأسرة الهاشمية المالكة؟
شيء واحد واضح كالشمس في أواخر أيام حزيران الدافئة: غور الأردن – في الأراضي الأردنية وفي جانبنا – سيكون ساحة المعركة بين الجيش الإسرائيلي والجهاد من الشرق، إذا لم يتوقف الجهاد في شرق غور الأردن. من يظنّ أنّ دولة فلسطينية في الضفة الغربية ستحمي إسرائيل من الجهاد، عليه أن يُثبت ذلك قبل أن يدعو إسرائيل إلى ترك غور الأردن. هل الجيش الفلسطيني، الذي تمّ تسليحه وتدريبه من قبل الأمريكيين (“قوات دايتون”)، سيكون أقوى وأكثر حماسة من الجيش العراقي الذي سلّحته ودرّبته أيضًا الولايات المتحدة؟
إن ما يحدث اليوم في سوريا والعراق، وقد ينزلق إلى داخل الأردن، يثبت لإسرائيل مرة أخرى صحّة المثل العربي: “ما حكّ جلدك مثل ظفرك”. أما في العبرية يعبّرون عن ذلك بمقولة الحكماء المعروفة من أخلاقيات الآباء: “إذا لم أكن لنفسي، فمن سيكون لي؟” ومنها عليكم التعلم بنفسكم.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع ميدا.