إنّ قصة الأحزاب العربية في دولة إسرائيل هي دراما سياسية تمتدّ على مدى سبعة عقود مليئة بالتحوّلات. من شظايا المجتمع الفلسطيني الذي تبقى في أراضي دولة إسرائيل عقب حرب 1948، دون قيادة ثابتة أو ثقافة سياسية مستقرّة، نَمَتْ على مدى السنين منظومة أحزاب مشبعة بالتوتّرات وتضارب المصالح.
الأمر الذي بدأ في السنوات الأولى لدولة إسرائيل كمنظومة أحزاب كانت تحت رعاية الأحزاب الصهيونية الكبيرة – وعلى رأسها حزب مباي (حزب رئيس الحكومة الأول دافيد بن غوريون) – تدحرج مع الزمن لتصبح شريكة في الحركة الوطنية الفلسطينية داخل الكنيست الإسرائيلي. كان التغيير تدريجيّا، ولكنّه كان كبيرا.
في الواقع، كان أعضاء الكنيست الأوائل في تاريخ إسرائيل تحت رعاية المؤسسة الصهيونية
في الواقع، كان أعضاء الكنيست الأوائل في تاريخ إسرائيل تحت رعاية المؤسسة الصهيونية. تولّى ثلاثة أعضاء كنيست عرب في الكنيست الأولى لإسرائيل والتي انتُخبت عام 1949. كان اثنان منهما، سيف الدين الزعبي وأمين جرجورة، أعضاء في حزب “التكتل الديمقراطي في الناصرة”، والذي كان في الواقع حزبا برعاية الحزب الحاكم، مباي. كان عضو الكنيست الثالث توفيق طوبي من الحزب الشيوعي، والذي كان هو أيضًا شعبيّا بين العرب.
رغم أن الزعبي وجرجورة كانا تحت رعاية صهيونية، ولكنهما لم يتحدّثا العبرية إطلاقا، بخلاف طوبي الشاب. تم تكريم جرجورة بإلقاء خطابه الأول أمام الكنيست باللغة العربية. ولكن حظي الزعبي بوظيفة عضو كنيست بسبب حقيقة أنّه منذ الحرب بين الحركة الصهيونية والعالم العربي، اصطفّ بقوة إلى جانب الصهيونية، وتطوّع للتعاون مع شعبة الاستخبارات العسكرية لتنظيم “الهاغاناة” الإسرائيلي.
بذلت السلطات في دولة إسرائيل – والتي فرضت حكما عسكريا على السكان العرب حتى عام 1966 – كل ما بوسعها لتحويل القيادة التقليدية المحلية، الوجهاء والمخاتير، إلى عملاء لها. لقد سعت إلى تشجيع دعمهم، سواء بواسطة التصويت المباشر للحزب الحاكم أو بواسطة إقامة أحزاب راعية أخذت أسماء مختلفة: “التكتل الديمقراطي”، “التقدّم والعمل”، “الزراعة والتنمية”، “التعاون الأخوة”، وغيرها.
لدى وصولهم إلى الكنيست كان ممثّلو تلك الأحزاب فاقدين للاستقلالية، وتمّ إملاء كلّ تحرّكاتهم عليهم من قبل أسيادهم الإسرائيليين
استندت الأحزاب إلى التقسيم الطائفي بين المسلمين، المسيحيين، البدو والدروز من مواطني إسرائيل. لدى وصولهم إلى الكنيست كان ممثّلو تلك الأحزاب فاقدين للاستقلالية، وتمّ إملاء كلّ تحرّكاتهم عليهم من قبل أسيادهم الإسرائيليين. طوال هذا الوقت كلّه لم يكلّف أي حزبّ يهودي نفسه عناء دمج ممثّلين عرب في صفوفه.
كانت تلك الأحزاب تفتقد إلى الأيديولوجية السياسية والاجتماعية المتماسكة، وتركّز على ضمان الفوائد لناخبيها. ولا يعني ذلك أنّه لم يكن لدى عرب إسرائيل في تلك السنوات سببًا للنضال، حيث إنّ الحكم العسكري الذي فرضته إسرائيل على العرب كان في أوج قوّته.
وقف المتطرّفون الشيوعيّون ضدّ السلطات الإسرائيلية، وهم وحدهم رفعوا لواء القومية العربية حتى في تلك الأوقات العصيبة. حتى اليوم، لا يزال المواطنون العرب هم العمود الفقري للرؤيا الشيوعية في إسرائيل.
كان توفيق طوبي الممثّل العربي الأول للحركة الشيوعية في إسرائيل. ولكن وبخلاف كبير ممثّليها في الكنيست اليوم، عضو الكنيست محمد بركة، الذي قال مؤخرا في إحدى المقابلات إنّه لا يرى مشكلة في قتل الجنود الإسرائيليين، فقد عرّف طوبي عن نفسه، بالإضافة إلى كونه شيوعيّا، بأنّه “وطني إسرائيلي”. استمرّ وتولّى في الكنيست على مدى 44 سنة متواصلة، وكان آخر أعضاء الكنيست الأولى الذين ظلّوا على قيد الحياة حتى وفاته عام 2011.
كانت هناك مجموعة أخرى حملت بذور السياسة الوطنية الفلسطينية وهي مجموعة الأرض، والتي سعت وللمرة الأولى إلى إسماع صوت الفلسطينيين من غير الشيوعيين في إطار السياسة الإسرائيلية. فشل نضال الأرض، وتم إخراج الحركة عن القانون عام 60.
ركّزت مطالب السياسيين العرب على مجالين: ضمان المساواة للمواطنين العرب داخل دولة إسرائيل، وضمان استقلال الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة
إن إلغاء الحكم العسكري على المواطنين العرب عام 1966 واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 قد وضع مواطني إسرائيل العرب في واقع مختلف تماما. منذ ذلك الحين، ركّزت مطالب السياسيين العرب على مجالين: ضمان المساواة للمواطنين العرب داخل دولة إسرائيل، وضمان استقلال الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة.
استمرّ الاحتكاك المتواصل بين المطالبة بالمساواة لمواطني إسرائيل العرب والمطالبة باستقلال إخوانهم الفلسطينيين في مضايقة الفلسطينيين من مواطني إسرائيل حتى اليوم، الممزّقين بين انتمائهم العرقي والتاريخي للشعب الفلسطيني، وبين مواطَنَتهم الإسرائيلية.
في السبعينيات، ظهرت حركة أبناء البلد، وهي مجموعة متطرّفة جديدة لم تكتسح الجماهير، ولكنها غيّرت الطريقة التي تعامل فيها مواطنو إسرائيل العرب مع السياسة. عزّز المزيد والمزيد من عرب إسرائيل هويّتهم الفلسطينية، والتي تضخّمت في أعقاب أحداث مثل يوم الأرض في 30 آذار عام 1976، والذي قُتل فيه ستّة مواطنين. تلك هي الأحداث التي صاغت جيل السياسيين العرب في الكنيست الحالية.
ذكّرت وفاة 13 مواطنًا عربيًّا في تشرين الأول 2000 من كان قد نسي الدروس الصعبة لعام 1976
بعد عقدين من ذلك، في التسعينيات، كان يبدو أنّ عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين ستقرّب مواطني إسرائيل العرب إلى حالة من التحسّن في حقوقهم وصقل هويّتهم. ولكن كان انهيار تلك العملية في نهاية عام 2000 بمثابة إعلان عن فشل هذا المسار. ذكّرت وفاة 13 مواطنًا عربيًّا في تشرين الأول 2000 من كان قد نسي الدروس الصعبة لعام 1976. إلى حدّ كبير، كان يوم الأرض قد صاغ جيلا كاملا من السياسيين الناشطين اليوم.
وخلال كلّ ذلك، غيّر صعود الحركة الإسلامية في أراضي الـ 48 كقوة سياسية رائدة داخل إسرائيل قواعد اللعبة. إن قرار الشقّ الجنوبي من الحركة في الترشّح لانتخابات الكنيست للمرة الأولى عام 1996 في إطار القائمة العربية الموحّدة قد ساهم كثيرا في صقل الخطاب الإسلامي كعامل حاسم وقويّ في سياسة الأحزاب العربية في إسرائيل.
أصبحت القومية الفلسطينية المتطرّفة أكثر حدّة هي أيضًا في إطار حزب التجمّع الوطني الديمقراطي. وهكذا حصل أنّ خطاب الأحزاب العربية في إسرائيل، والذي تمّت السيطرة عليه تماما في البداية من قبل الأحزاب الصهيونية، تدحرج سريعا إلى خطاب قومي فلسطيني متطرّف من مدرسة الدكتور عزمي بشارة، متبّل بالخطاب الديني للحركة الإسلامية.
بقيت القوى الشيوعية، التي سيطرت على مدى معظم السبعينيات والثمانينيات على الشارع العربي، في الخلف، دون دعم الاتّحاد السوفياتي الذي انهار. منذ سقوط الاتّحاد السوفياتي، يتم سحب أعضاء الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة من قبل التطرّف القومي والديني ويُجبرون على إهمال قيم المساواة والأخوة الوطنية.
بعد نحو سبعة عقود من عهد سيف الدين الزعبي، فإنّ خطاب حنين زعبي هو الذي يسيطر على أرض الواقع. ومن المرجّح أنّ هذا الخطاب، أي الخطاب المتطرّف، هو الذي سيميّز الجريَ المشترك للقوميين، الإسلاميين والشيوعيين إلى الكنيست عام 2015.