في الأسابيع الماضية، وُضعت لافتات مضادّة لأمريكا في شوارع عدد من المدن الإيرانيّة. وكُتب على اللافتات: “النزاهة بالأسلوب الأمريكي”، وهي تعرض صورًا تُظهر ممثلي إيران في المفاوضات جالسين للتفاوُض مع ممثّلي الولايات المتحدة بطريقة تهدف إلى التشديد على عدم نزاهة الأمريكيين ونواياهم الخبيثة تجاه إيران.
وأثار نصب اللافتات بالتزامُن مع تقدّم المفاوضات بين إيران ومندوبي الغرب، بمَن فيهم مندوبو الولايات المتحدة، انتقادًا لاذعًا من جانب أنصار حكومة روحاني الذين ادّعَوا أنّ هذه خطوة سياسية من قِبل خصومهم، هدفها وضع العصيّ في دواليب المساعي الدبلوماسية للحكومة. بالمقابل، عبّرت مصادر محسوبة على اليمين المحافظ عن دعمها لوَضع اللافتات. فقد دافع رئيس بلدية مشهد، الذي قرّر إبقاء اللافتات، عن قراره قائلًا إنّ الولايات المتحدة حاربت مواطني إيران بطُرق مختلفة منذ الثورة الإسلامية. وادّعت مقالات تحليل نُشرت في الصحافة المحافِظة أنّ اللافتات تعكس بدقّة تعامُل الولايات المتحدة مع إيران: إدارة مفاوضات دبلوماسية معها مقابل استمرار التهديدات العسكرية لها.
منذ البداية، نظرت الثورة الإسلامية إلى الولايات المتحدة بصفتها “الشيطان الأكبر”، وتطوّر العداء تجاهها حتّى أصبح بمثابة معتقَد دينيّ. رأت إيرانُ الثورية الولاياتِ المتحدة مصدرًا لكلّ الشر في العالم ومسؤولة عن السياسة المضادّة لإيران في الإقليم والمسّ بمصالح إيرانيّة مباشرة عبر العقوبات الاقتصادية، دعم المعارضة الإيرانية، انتقاد سياسة النظام، دعم الأنظمة العربية المعتدِلة في الشرق الأوسط، دعم إسرائيل، والهجوم الحضاريّ ضدّ إيران. وضمن لائحة الاتهامات للولايات المتحدة شُملت بنود لا تتعلق بسياستها ضدّ إيران بعد الثورة فحسب، بل أيضًا بدعمها لنظام الشاه الاستبداديّ، الذي جرى التعبير عنه في تورّط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) في الانقلاب الذي أطاح بحكومة محمد مصدق في آب 1953.
وبقيت النظرة التي لا تقبل التسويات، التي انتهجها الخميني تجاه الولايات المتحدة قائمة حتّى بعد تعيين علي خامنئي مُرشدًا للثورة عام 1989. وعبّر خامنئي عن نظرته العدائية للولايات المتحدة حتى حين أبدت عناصر براغماتيّة في إيران، منذ التسعينات فصاعدًا، اهتمامًا أكبر بالعلاقات مع الولايات المتحدة، وبدأت تدافع عن التفاوُض معها. فحين دعا الرئيس محمد خاتمي إلى التفاوض مع الولايات المتحدة بُعَيد انتخابه رئيسًا عام 1997، رفض خامنئي أية إمكانية للتسوية. وبعد مقابلة أجرتها CNN مع خاتمي في كانون الثاني 1998، عاد المرشد الأعلى وكرّر إدانته للولايات المتحدة بشدّة، واعدًا أنّ إيران ستواصل الصراع ضدّها.
واشتدّ الجدل السياسي الداخلي في إيران بشأن سياستها حيال الولايات المتحدة أكثر فأكثر في أعقاب العقوبات الاقتصادية التي فرضها المجتمع الدولي على إيران في السنوات الأخيرة والأزمة الاقتصادية الخانقة. وفيما زعمت مصادر في اليمين المحافِظ، وعلى رأسها المرشد الأعلى، أنه لا يجب الانحراف عن الخط الأيديولوجي المعادي للولايات المتّحدة، فإنّ عناصر براغماتيّة في الوسط السياسي دعت إلى إعادة دراسة جدوى رفض إيران للمفاوضات مع واشنطن. وأثير هذا النقاش مؤخرا قرابة الذكرى السنوية للسيطرة على سفارة الولايات المتحدة في طهران، التي جرى إحياؤها في 4 تشرين الثاني. فعشية الذكرى السنوية، قال رئيس “مجلس تشخيص مصلحة النظام”، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، إنّ مفجّر الثورة الإسلامية، روح الله الخميني، وافَق مبدئيًّا على إلغاء الشعار “الموت لأمريكا”. وأثارت أقواله نقدًا لاذعًا من جانب أوساط في اليمين المتطرف اتهمته بتحريف أقوال مرشد الثورة.
وتتجلّى النظرة المتغيّرة تجاه الولايات المتحدة في العقد الأخير بين الشعب الإيراني أيضًا. في أيلول 2002، نشر معهد الأبحاث الإيراني “إيندا” نتائج الاستطلاع، الذي تناوَل مواقف الجمهور فيما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة. وأظهر الاستطلاع أنّ 74% مِن مواطني إيران يدعمون استئناف العلاقات مع الولايات المتحدة، رغم أنّ 60% منهم لديهم مواقف سلبيّة من العلاقات مع الولايات المتحدة ومن سياستها. وسرعان ما رفض المرشد الأعلى بحزم نتائج الاستطلاع مصرِّحًا أنّ الإيرانيين يعارضون الحوار مع الولايات المتحدة وأنّ ذوي التفكير المغاير هم عديمو الفخر الوطني أو جهَلة. وفي أعقاب نَشْر الاستطلاع، أمرت السلطات بإقفال معهد الأبحاث واعتقال مُديريه. مؤخرا، أوعز الرئيس روحاني بإجراء استطلاعات رأي حديثة تفحص مواقف الشعب من المفاوضات مع الولايات المتحدة. من النتائج الأولية للاستطلاعات، التي نُشرت في تشرين الأول، تبيّن أنّ بين 80 و90 من المئة من الشعب يدعمون تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة.
رغم الدعم الذي وفّره خامنئي للرئيس روحاني لإدارة المفاوضات مع الأمريكيين، فمن الواضح أنّ موقفه الأصليّ من الولايات المتحدة لم يتغيّر. ففي خطابه في ذكرى السيطرة على السفارة الأمريكية، هاجم خامنئي بحدّة الولايات المتحدة، وأكّد أنه لا يثق بها. وتعبّر الجهود التي بذلها النظام لتجري تظاهُرات 4 تشرين الثاني كالمُعتاد، وحتى بطريقة أبرز، عن خشية النظام من أنّ التراجع عن سياسته التقليدية تجاه الولايات المتحدة سيُعتبَر انحرافًا صارخًا عن طريق الثورة، وبالتالي يمسّ بهويّته.
ومعنى هذه النظرة هو أنّ التسوية التامّة في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة غير متوقّعة في المدى المنظور، خصوصًا ما دام علي خامنئي المفتي الأعلى في تحديد الاستراتيجية الخارجية لبلاده. مع ذلك، يمكن أن يؤدي استمرار المفاوضات بين مندوبي إيران والولايات المتحدة في الشأن النووي – لا سيّما إذا أدّى إلى تسوية في هذه المسألة – إلى تمهيد الأرض لحلّ خلافات أخرى بين واشنطن وطهران، سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو فيما يتعلّق بالمصالح الإقليمية للبلدَين، مثل: الأزمة السياسية في سوريا، والتطوّرات في العراق. على المدى البعيد، يمكن أن تعيد اتفاقات كهذه ترميم الثقة بين الدولتَين، أو حتى تقود إلى تطبيع العلاقات بينهما.