حفّزت المشاريع الوطنية دائما مخيّلة المصريين، وأثارت آمالا لمستقبل أفضل، ولتحسين الوضع الاقتصادي لبلاد النيل، التي تكافح منذ عقود طويلة ضد صعوبات اقتصادية وفقرا آخذا بالازدياد. كان طبيعيا ومطلوبا أن يبدأ الرئيس المصري الجديد، عبد الفتاح السيسي، توليه للمنصب بالإعلان عن مشروع وطني ضخم من شأنه أن يحقّق أرباحا ضخمة لتمويل مصر ولإنشاء الآلاف من أماكن العمل الجديدة لجموع الشباب العاطلين عن العمل في البلاد. في شهر آب الماضي، ألقى السيسي قنبلة عندما أعلن نيته بتوسيع قناة السويس الحالية وتحويل منطقة القناة إلى مركز دولي للتجارة، الخدمات، والصناعة.
ليست فكرة توسيع قناة السويس وإضافة مسار مواز فكرة جديدة، وقد تم طرحها عدة مرات في فترة حكم السادات ومبارك، ولكنها رُفضت حينذاك لعدم وجود تمويل كاف. تُعتبر قناة السويس، التي تم حفرها في القرن التاسع عشر بتعاون بريطاني – فرنسي والتي تصل بين البحر الأبيض المتوسّط والبحر الأحمر، أحد الموارد الوطنية الأهم في مصر، حيث تصل رسوم الإبحار في القناة إلى نحو 5 مليار دولار سنويا. تتوقع الحكومة المصرية الآن أن يزيد توسيع قناة السويس الإيرادات منها حتى مبلغ 13.5 مليار دولار في المرحلة النهائية. على نفس القدر من الأهمية، تم إطلاق مشروع توسيع القناة كمشروع وطني بكل معنى الكلمة. جرى تمويل المشروع في معظمه من قبل الشعب المصري، حيث أصدر المصرف المركزي في مصر “رسوم استثمار” في مشروع القناة لعامة الشعب، مع عائد مضمون بنحو 12%. تم إطلاق هذه الرسوم بمبالغ منخفضة نسبيًّا، بين 10 إلى 1000 جنيه مصري، ممّا يسمح للمصريين العاديّين، وليس فقط أصحاب الأموال، بالمشاركة في تمويل المشروع والاستفادة من العائد السخيّ الذي سيتحقّق.
وفعلا، فقد أعرب الجمهور المصري بوضوح عن ثقته بالمشروع الوطني الجديد، حيث بعد ثمانية أيام فقط تم تجنيد مبلغ يصل نحو 8 مليار دولار، كله تقريبًا من قبل مستثمرين من القطاع الخاص. ويبدو أن هذا الانقضاض قد جاء نتيجة للعائد السخي الذي تم وعد المستثمرين به، ولكن يمكن بالتأكيد أن نرى فيه أيضًا تعبيرا عن الثقة بالحكم الجديد. بالإضافة إلى ذلك، فمن المُفترض أن يعالج المشروع الضخم العديد من الصعوبات التي تواجهها البلاد، بما في ذلك إنشاء مليون مكان عمل جديد، إنعاش الاقتصاد المصري ومواجهة الازدحام الذي لا يُطاق في القاهرة من خلال تطوير مدن منطقة القناة: الإسماعيلية، السويس وبورسعيد.
ولكن رغم الحماسة الأولية، فلدى المستثمرين أنفسهم وللحكومة المصرية عدّة أسباب وجيهة للخوف على مستقبل المشروع الطموح. تتصدر هذه الأسباب التقاليد غير الرائعة في إقامة المشاريع الوطنية في مصر. انتهت آخر مرة أعلنت فيها الحكومة عن مشروع طموح يُعالج مشاكل مصر الديمغرافية والاقتصادية، بخيبة أمل قاسية. كان المشروع الذي سُمّي “توشكا” يستند إلى فكرة بسيطة بحسبها يتم ضخّ المياه من بحيرة ناصر، التي تجمّعت نتيجة بناء السدّ على نهر النيل في أسوان، من خلال قنوات إلى الصحراء الغربية لتصبح الأراضي هناك صالحة للزراعة. وذلك بواسطة إحياء الأراضي الصحراوية على نطاقات واسعة ومن خلال إنشاء أماكن عمل لمئات الآلاف وتخفيض الضغط عن المراكز السكانية المزدحمة. ولكن المشروع، الذي بدأ بناؤه عام 1997، وواجه صعوبات عديدة كنتيجة لسوء التخطيط، وصعوبة في تحقيق أهدافه، حتى وصل الأمر إلى أن تعلن الحكومة عام 2005 بأنّه قد تم تقليص الأهداف بشكل كبير وتمديد موعد إتمام المشروع لخمس سنوات.
هناك من يدّعي أنّ نفس الغطرسة وانعدام التخطيط اللذين أفشلا “توشكا” من المفترض أن يُفشلا أيضًا المشروع الحالي. تم تحديد موعد إتمام العمل لعام واحد، وهو غير واقعي في نظر الكثيرين، وبالطريقة المتسرّعة التي أُطلق المشروع بها، بقي العديد من الأسئلة مفتوحًا بخصوص قدرته على تلبية التوقعات. قريبا من بداية الأعمال، واجهت الحفارات مياه جوفية في مسار الحفر، والتي أدت إلى إغراق موقع الحفر وتأخير العمل. من المرتقب أن تزيد التأخيرات الناجمة عن الحفر في طريق المياه الجوفية من تكلفة الأعمال بشكل ملحوظ بنسبة تصل إلى 10 أضعاف، كما أفاد هيثم عواد، بروفيسور في الهندسة والذي أجرى مقابلة في الموضوع على قناة العربية. في الواقع، يبدو أنّ مخطّطي المشروع قد تجاهلوا توصيات المهندسين، الذين قالوا إنّ المسافة بين المسار الجديد الذي تمّ حفره وبين القناة الحالية ينبغي أن تكون 1.5 كيلومتر على الأقل، بينما في الواقع فإنّ المسافة أقل من نصف هذا النطاق.
ولكن حتى لو حقّق المصريون غايات البناء، تثور أسئلة حول قدرة المشروع على تلبية التوقعات المالية. كما ذكرنا، يتوقع المصريون عائدا بقيمة 13.5 مليار دولار سنويا، كنتيجة لمضاعفة قدرات حركة المرور في القناة الجديدة. ولكن ودون علاقة للبنى التحتية الجديدة، فإنّ مضاعفة الحركة في القناة متعلقة بحجم التجارة الدولية والطلب على خدمات المرور من خلالها. أشار خبراء اقتصاديون درسوا الموضوع لعدد من المواقع الإعلامية إلى أنّ التخمين الذي يقول إنّه حتى عام 2023 ستتم مضاعفة الحركة في قناة السويس، ليس واقعيّا، لأنّ حجم التجارة الدولية ينمو بنسبة نحو 2% إلى 3% في العام الواحد فقط، ولا يتضمن ذلك أوقات الركود الاقتصادي. تتحدّث بعض التقديرات عن عوائد إضافية بقيمة 200 حتى 300 مليون دولار فقط في السنة كنتيجة لإتمام مشروع القناة. وعلاوة على ذلك، فستُضطرّ قناة السويس الجديدة للتنافس مع مشاريع يتم بناؤها في المقابل لتوسيع وتطوير قناة “بنما” وحفر قناة جديدة في نيكاراغوا. قد تُوجّه هذه المشاريع بعضا من حركة الملاحة البحرية التي تمرّ من خلال قناة السويس من آسيا إلى الشواطئ الشرقية للولايات المتحدة في المسارات البديلة. تضر هذه التوقعات بشكل خاصّ على ضوء الالتزام بالعوائد العالية للمستثمرين في المشروع من قبل الحكومة المصرية، وهو الالتزام الذي من شأنه أن يحمّل أعباء ثقيلة على ميزانية الدولة.
وبالإضافة إلى المشكلات الاقتصادية والتخطيطية، يجذب المشروع معارضة من قبل منظّمات الحفاظ على البيئة والعلماء الذين يقولون إنّ توسيع القناة قد يؤدي إلى عواقب وخيمة نتيجة لزيادة تغلغل الأنواع من المحيط الهندي والبحر الأحمر إلى حوض البحر الأبيض المتوسّط. ويخشى العلماء أن تنتشر بعض الأنواع الجديدة التي ستصل من المحيط الهندي بلا هوادة وأن تلحق الضرر بالتوازن البيئي في البحر الأبيض المتوسّط.
ولكن رغم المشاكل المحتملة، فإنّ المشروع يثير الكثير من الأمل في مصر، والتي عانى اقتصادها كثيرا من عدم الاستقرار السياسي والأمني منذ ثورة 2011. تستعد مصر لعقد مؤتمر اقتصادي دولي والذي من المقرّر عقده في القاهرة في شهر آذار القريب، وستُبذل كل الجهود لعرض التقدّم حتى ذلك الحين، على أمل استعادة المستثمِرين الأجانب إلى البلاد والذين تجنّبوا المجيء إليها في السنوات الأخيرة. إنّ مشروع توسيع قناة السويس عنصر هامّ في الرؤية الاقتصادية لمصر الجديدة.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع “الشرق الأدنى”