إخلاء الغيتوهات والمعسكرات
مع تفكك الرايخ الثالث وانهيار الجبهة الشرقية بدأ الألمان بانسحاب واسع النطاق نحو الغرب إلى داخل ألمانيا. ومع اقتراب الجيش الروسي إلى الحدود البولندية سرّع الألمان من عملية القتل في المعسكرات.
لقد بدأ القضاء على آخر اليهود في المعسكرات الواقعة في منطقة لوبلين منذ شهر تشرين الثاني عام 1943 تحت الاسم الرمزي “إيرنتيفيست” والذي يعني “عيد الحصاد”. بعد موجة من الترحيل منذ حزيران حتى أيلول عام 1942 تم تركيز الناجين من الجاليات اليهودية من وسط بولندا في عدة غيتوهات معزولة. حتى منتصف عام 1943، دُمّرت هذه الغيتوهات وتم سجن العمّال المؤهّلين في معسكرات للعمل. ومن ثم تم إخلاء المعسكرات عام 1944 وأُرسل السجناء إلى معسكرات في ألمانيا. أُرسل أواخر يهود لودز، وهم نحو 70 ألفًا، إلى معسكر الإبادة أوشفيتز- بيركينو في آب عام 1944. وقد قُتل معظمهم فور وصولهم.
أمر رئيس الإس إس، هاينريش هيملر، أن يُمنع بكل ثمن وضع يحرّر فيه جنود الحلفاء معسكرات الاعتقال ويطلقون سراح السجناء، بحيث يمكنهم الكشف عن حجم الإبادة الممنهجة. وقد قرّر الألمان إخلاء المعسكرات وبذلك يمكنهم القضاء على أدلة جرائم القتل، والاستفادة الكاملة من القوة العاملة اليهودية في ألمانيا والنمسا. كانت الأوامر الأولى هي إخلاء الأسرى نحو الغرب، ولكن خاف بعض الحرّاس على حياتهم وأرادوا الفرار من الحلفاء، لذلك قتلوا الأسرى في المكان.
المواكب الجنائزية
كانت المعسكرات الأولى التي تم إخلاؤها في دول البلطيق، في شرق بولندا ووسطها. تمّ الإخلاء في نفس الوقت تقريبا بالقطارات، وفي أحيان نادرة بالسفن أيضًا. تم إخراج بعض السجناء من المعسكرات مشيًا على الأقدام وبعد فترة قصيرة من ذلك بدأت موجة هائلة من “المواكب الجنائزية”.
في كانون الثاني عام 1945، في أعقاب الهجوم المجدّد للجيش الأحمر، بدأ إخلاء معسكرات الاعتقال من باقي أرجاء بولندا. تم إخراج نحو 66,000 أسير، ومعظمهم من اليهود، من معسكر أوشفيتز ومن المعسكرات الفرعية التابعة له، ومن ثم تم تسييرهم وترحيلهم في قطارات الشحن المفتوحة إلى معسكرات أخرى. لاقى 15,000 ألفًا على الأقل حتفهم خلال الرحلة. بعد ذلك بأيام قليلة، بدأ إخلاء معسكر شتوتهوف والمعسكرات التابعة له. وفي المجموع لاقى حتفه في المواكب الجنائزية وأثناء إطلاق النار على شاطئ البحر نحو 26,000 من بين 50,000 أسير في شتوتهوف.
استمرّت المواكب الجنائزية حتى اليوم الأخير من الحرب. ولاقى حتفه في المواكب الجنائزية، منذ صيف عام 1944 وحتى نهاية الحرب، ما معدله بين 200,000 إلى 250,000 أسير من معسكرات الاعتقال النازية، من بين 714,000 خرجوا منها. لقد لاقوا حتفهم خنقًا، من الحرّ، الجوع، والعطش، بينما كانوا في قطارات شحن مُغلقة، أو تم قتلهم رميًا بالرصاص أو ضربًا. كان ربع حتى ثلث هؤلاء الضحايا من اليهود. وُجدت بعد الحرب على طول مسارات المواكب الجنائزية مئات القبور الجماعية لعشرات آلاف الأسرى.
نهاية حرب حزينة: الكشف عن حجم الكارثة
في 8 أيار عام 1945، استسلمت ألمانيا النازية للحلفاء، من دون شروط. قبل ذلك بفترة قصيرة بدأ الحلفاء بتحرير معسكرات الاعتقال والإبادة. وقد تم تحرير معسكر أوشفيتز- بيركينو في تاريخ 27 كانون الثاني عام 1945، وهو التاريخ الذي يتم فيه اليوم في العالم إحياء اليوم العالمي لذكرى الهولوكوست. ومع ذلك، فقد استمر الألمان بمقاومة شديدة على “أرض الرايخ”، وتم تحرير معسكرات الاعتقال في ألمانيا والنمسا من قبل الحلفاء فقط في شهرَي نيسان وأيار عام 1945.
في 15 نيسان، حرر الجيش البريطاني معسكر برجن بلسن، وذلك قبل أن يُكمل الألمان إخلاءه. كان في المعسكر نحو 60,000 أسير، كانت غالبيتهم العظمى من المرضى في حالة صعبة. وفي أرض المعسكر كانت ملقاة آلاف الجثث التي لم تُدفن بعد. لقد أصيب الجنود البريطانيون بالذهول مما رأت أعينهم. ولم يكن الجيش البريطاني مستعدّا لعمليات الإنقاذ بالحجم المطلوب. كجزء من عمليات المساعدة تم توزيع كميات هائلة من الطعام على الناجين، ولكن بعد سنوات طويلة من الجوع فإنّ مِعَد الناجين لم تكن قادرة على هضم الطعام، فمات الكثير منهم بسبب الأكل المفرط.
في الأيام الخمس الأولى بعد التحرير توفي 14,000 ألف شخص، ولم يكن بالإمكان إنقاذهم. وتوفي 14,000 آخرون خلال الأسابيع التالية، رغم الجهود التي بُذلت لتقديم المساعدة وإنقاذ حياة من كان على وشك الموت.
ترك تحرير المعسكرات صدمة عميقة في أوساط جنود الولايات المتحدة، ومن بينهم أيضا الجنود الذين كانوا ضالعين في المعارك. قال أناتولي شابيرو، وهو ضابط يهودي شارك في تحرير أوشفيتز: “أول شيء رأيته هو مجموعة من الأشخاص وقفوا في الخارج، في الثلج، وبدَوا كهياكل عظمية ترتدي ملابس السجناء، وعلى أقدامهم خِرَقٌ بدلا من الأحذية. لقد كانوا ضعفاء جدّا إلى درجة أنّهم لم يستطيعوا إدارة رؤوسهم. فقلنا لهم: “لقد وصل الجيش الأحمر لتحريركم”. لم يصدّقونا في البداية. فاقتربوا منّا ولمسونا كي يروا بأنّ ذلك كان حقيقيّا”.
تقول إحدى الناجيات، وهي بيلا برافر: “قال حارس المعسكر الذي جاء ليفتح البوابة: أنتم أحرار ويمكنكم الخروج… كانت هذه إحدى المعجزات! لقد دخل الروس وكنّا في حالة لم يتحرّك ولم يخرج فيها أحد. لم نضحك، لم نفرح، كنّا لا مبالين… جاء أحد الجنرالات، وقد كان يهوديّا. وقال لنا إنّه سعيد جدّا لأنّ هذا هو أول معسكر يعثر فيه على أشخاص ما زالوا أحياء. وقد بدأ يبكي لوحده. أما نحن فلم نبكِ”.
الناجون
حاول مليونا يهودي، وهم الذين ظلوا على قيد الحياة في أراضي الاتحاد السوفياتي ومئات آلاف اليهود الذي نجوا بطرق مختلفة، أو نجوا من المعسكرات، العثور على من يعرف أشخاص نجوا من هذه الفظائع. وغالبا، خاب أملهم، واكتشف الناجون أنّهم ظلوا لوحدهم في العالم. خرج الناجون اليهود من المعسكرات والغابات، عادوا من مخابئهم، وحاولوا العودة إلى منازلهم في أوروبا الشرقية، ولكنهم قوبلوا هناك بالرفض والعداء. خشي الكثير من السكان أنّ يكون اليهود قد عادوا للمطالبة بممتلكاتهم التي سُرقت ووُجدت في أيدي جيرانهم. قتلت عصابات معادية للسامية نحو 1,000 من الناجين في الأشهر الأولى من تحريرهم.
وبدأ الكثير من الناجين بالتحرّك غربًا. استقرّ بعضهم لفترة ما قرب الحدود البولندية الألمانية وأنشأوا مؤسسات جماهيرية رغبة منهم في تحضير أنفسهم نحو حياة جديدة. لقد أسسوا مستشفيات لمعالجة المرضى والمنهكين، دور أيتام، مدارس، ومزارع للتدريب الزراعي. بعد فترة من التعافي أكمل بعضهم طريقه نحو أوروبا الغربية وجنوبًا نحو الساحل الإيطالي. وطالب القليل من الناجين، بالهجرة الحرّة، بشكل أساسيّ إلى أرض إسرائيل.
هاجر نحو ثلث النازحين اليهود الـ 300,000 إلى الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، ودول أمريكا اللاتينية. حاول 70,000 منهم الذهاب إلى إسرائيل رغم سياسة عدم الهجرة للانتداب البريطاني. وردّا على ذلك بدأ البريطانيون بترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى قبرص وسجنهم في معسكرات الاعتقال. تم ترحيل نحو 52,000 من المهاجرين غير الشرعيين إلى معسكرات الاعتقال في قبرص وهناك وجدوا أنفسهم مجدّدا وراء الأسلاك الشائكة.
محاكمات نورنبيرغ
بعد انتهاء الحرب، أجريتْ محاكمات لـ 22 من قادة النظام النازي أمام المحكمة العسكرية الدولية، في نورنبيرغ. كان تهدف هذه المحكمة إلى إصدار أحكام ضدّ المتّهمين بارتكاب “جرائم ضدّ الإنسانية والسلام”، وهي الجرائم التي خطّطوا لها، نفّذوها، نظّموها أو أمروا بتنفيذها. ومن بين المحاكَمين كان هناك هيرمان غورينغ، قائد سلاح الجو الألماني الذي كان مسؤولا أيضًا عن مصادرة الممتلكات اليهودية، بالإضافة إلى نائب هتلر، رودلف هس، مع قادة آخرين في النظام النازي.
وتم الحكم بالإعدام على 12 من المتّهمين. انتحر غورينغ في سجنه وتم شنق الآخرين في 16 تشرين الأول عام 1946. حُكم على هس وقادة آخرين بالسجن مدى الحياة، وحصل آخرون على فترات سجن أقصر. تمت تبرئة ثلاثة من المحاكَمين فقط.
كانت محكمة نورنبيرغ المحكمة الأولى في التاريخ التي تمّت فيها محاكمة قادة نظام، حكومة وجيش، والذين كانوا مسؤولين عن جرائم نُفّذت في بلادهم، وذلك بواسطة محكمة مستقلّة وذات طابع دولي. لم تُجرَ لهم محاكمة ميدانية ولا إعدام وفقًا لقرار المنتصرين، وإنما محاكمة وفقا للقانون والعدالة ومع توفير الحماية الكافية للمتّهمين. كان القضاة من مواطني الدول المنتصرة: الاتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة، بريطانيا، وفرنسا. وتعتبر الشهادات التي تم الإدلاء بها في محكمة نورنبيرغ، الوثائق التي عرضتها النيابة وبقية التوثيقات مصدرًا أوليّا للتعرّف على فترة الهولوكوست والجهود المطلوبة لمنع تكرار جرائم الإبادة الجماعية.