أنا لا أحب القدس. في الحقيقة، أنا أكرهها كثيرًا. أحاول ألا أصل إليها وأن أخرج منها بأقصى سرعة ممكنة. أساسًا هي مدينة مقرفة وشائنة. في الجزء اليهودي منها هنالك بعض الأشياء النفيسة، كلها في أحيائها القديمة؛ في الجزء الشرقي هنالك المدينة القديمة التي هي رائعة بجمالها بالطبع وبتاريخها. بقية الأشياء: مقرفة. أحياء المستوطنين الجديدة مقرفة والأحياء الفلسطينية القذرة والمهملة مقرفة. كذلك هو حال وسط المدينة. حتى جمال المدينة القديمة مُحي منذ زمن – دائمًا ما تكون المدينة المحتلة هي مدينة مقرفة جدًا.
إلا أنه لا حاجة أن تكون أية مدينة جميلة لكي نحبها. تل أبيب ليست جميلة ولكنها محبوبة. لا يمكن لأي لإسرائيلي علماني، ليبرالي وإنساني أن يُحب القدس – لا يمكن أن أحب مدينة في وضعها اللا أخلقي. وقدسيتها كذلك لا يمكنها أن تُحاكي قلب إنسان علماني، ولا شك بأنه لا يستطيع تقبُل المُسَلَّمات السياسية المبالغ بها والنابعة من قُدسيتها. على الإسرائيلي من هذا النوع أن يثور ضد عملية غسل الدماغ الدينية – القومية، التي تُحيط بالقدس. هذه ليست غايته، ولا يجب أن يكون هناك إجماعٌ حول القدس.
بدأ ذلك المسار في اليوم التالي لاحتلالها وتعاظم لاحقًا. ووقعت أنا حينها، في خٍضم تلك الحرب وبينما كنت لا أزال شابًا، أيضًا ضحية عربدة “العودة إلى أرض صهيون المقدسة”، كحال كل أبناء جيلي. تأثرت حتى البكاء لرؤية حائط المبكى، قبر راحيل والحرم الإبراهيمي. لم نر أبدًا ما كان حول تلك الأماكن.
جاءت لاحقًا سنوات الرومانسية، وكانت عمياء ومتجاهلة بشكل يفوق ذلك: الرحلات الليلية في المدينة القديمة، الحمص، طالبات الجامعات المرتديات الفساتين الجاهزة من السوق، النبيذ من كريمزان (نبيذ كان يصنعه رهبان “دير كريمزان” القريب من القدس) والطاولات النحاسية في كل صالون. أحببنا القدس. أحببناها أساسًا لأن السفر إليها كان يُشبه السفر إلى مكان آخر، في الوقت الذي كانت فيه تلك الرحلات قليلة. شعرنا ونحن في القدس بأننا خارج البلاد، لا دخل لقدسيتها ولا يهوديتها. انتقل بعض الأصدقاء للعيش في دير رهبان في شرقي المدينة. كنا علمانيين وكنا كالحالمين. أحببنا القدس وكنا نعتقد أنه إن سنت الكنيست قانونًا، حينها ستبقى المدينة “موحدة للأبد” تمويهًا لكلمة الاحتلال. اعتقدنا أنه يكفي أن يكون رئيس بلدية القدس يتحدث بلهجة فيينية (مدينة فيينا” ويُعتبر ليبراليًا من وسط أوروبا وهو صديق رجال فكر عالميين، لتمويه جرائم الاحتلال والاستيطان، التي كان هو، تيدي كوليك، المسؤول عنها منذ سنوات الاحتلال الأولى.
جاءت اليقظة بالطبع فقط مع نشوب الاضطرابات. ذكّرت الانتفاضة الأولى الإسرائيليين أن الوضع لا يمكن أن يبقى على حاله للأبد، ليس في الضفة، ولا في قطاع غزة ولا في “العاصمة الأبدية” (مُصطلح تستعملها القيادة الصهيونية للدلالة على “وحدة مدينة القدس والإشارة إلى أنها العاصمة الأبدية للشعب اليهودي. أول من استخدم هذا المصطلح هو أول رئيس للحكومة الإسرائيلية، دافيد بن غوريون). رد الاحتلال من جهته، بطريقته: إجراءات أكثر تشددًا وتعنتًا. أضاف بعد الانتفاضة الثانية حتى جدارًا للمدينة، والذي قام بتقسيم القدس الشرقية لأجزاء. هكذا على الأقل انتهت الحفلة التنكرية: لم يعد الإسرائيليون العلمانيون يقصدون المدينة القديمة ليلا لتناول الكعك المالح. بقيت قدسيتها رهنًا على المؤمنين والغيورين. إنما ويا للعجب: القدس “الموحدة” بقي عليها إجماع، وكأن شيئًا لم يحدث أبدًا. وكأن الإسرائيليين العلمانيين لم يتوقفوا عن الذهاب إلى شرقي المدينة منذ زمن، وكأن الكثير من العلمانيين لم يهجروا قسمها الغربي، وكأنه لم يكن هناك احتلال في شرقها، تمامًا مثل قلقيلية وطولكرم؛ المدينة التي جزء منها هو بسيط مثل موديعين أو الطيبة.
إنما إن أردت أن أقول الحقيقة عن القدس، فإن المدينة تحتاج لقيادة شجاعة وهذا غير موجود. والحقيقة هي أنه ما من دولة في العالم تعترف بأنها عاصمة إسرائيل؛ التي دمرها الاحتلال، وأنها مقسمة، ممزقة ومجزأة، قُدسيتها هي مسألة تخص المؤمنين فقط ولا علاقة لها على أي حال بالسيادة؛ حيث أن تقسيمها إلى عاصمتين أو تحويلها لتصبح عاصمة دولة واحدة هي مأساة أقل بكثير من الاستمرار باحتلالها.
في الوقت الراهن، يجب فقط الابتعاد عنها، قدر المستطاع.
نُشرت المقالة لأول مرة في موقع هآرتس.