لسنا نحن الذين نزعم هذه الأمور، بل باحث إسرائيلي يُدعى البروفسور عوز ألموج من جامعة حيفا، وهو عالِم اجتماع، مؤرخ، وباحث حول المُجتمَع الإسرائيلي.
في منشور مثير ومليء بالمعلومات حول أصل الدروز، نشره على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك، ادّعى البروفسور ألموج أنّه خلافًا لما ادّعاه باحثون كثيرون لسنوات طويلة، لا ينحدر الدروز من أصل عربي.
يكشف بحث موجز في شبكة الإنترنت نتائج كثيرة وأبحاثًا متعددة أُجريت على المُجتمَع الدرزي، الذي يبلغ عديده اليوم وفق التقديرات نحو مليون ونصف المليون موزّعين في أرجاء العالم (نحو 700 ألف درزي في سوريا، نحو 215 ألفًا في لبنان، نحو 140 ألفًا في إسرائيل، ونحو 32 ألفًا في الأردن، إضافةً إلى شتات في الولايات المتحدة، أستراليا، كندا، وفنزويلا).
وتتفق الأبحاث المنشورة حتى الآن بمعظمها على أنّ الدروز هم طائفة عربية في الشرق الأوسط، لديها ديانتها المميزة التي انبثقت عن الإسلام الشيعي – الإسماعيلي في القرن الحادي عشر. يعيش جميع الدروز تقريبًا في المنطقة الجغرافية التي تضمّ سوريا، لبنان، وشماليّ إسرائيل. ويهدف سكنهم في الجبال إلى حمايتهم من البيئة المعادية.
في شأن أصل المذهب الدرزي، ثمة توافق بين الباحثين أيضًا على أنه بدأ كحركة في الإسماعلية تأثرت بشكل أساسي بالفلسفة اليونانية والعِرفانية (الغنوصية). وفق الأبحاث، اتخذ المذهب الدرزي شكله في مصر في عهد الخليفة الفاطمي السادس، الحاكم بأمر الله، بين 996 و1021 للميلاد.
ليسوا عربًا، بل أصلهم من القوقاز
إذًا، ما هي الأفكار والادّعاءات الجديدة التي نشرها البروفسور ألموج؟
“قبل نحو عامَين، تلقيتُ رسالة إلكترونية مفاجئة من دكتور شاب (36 عامًا) يُدعى عيران الحايك من قِسم علوم الأحياء والنبات من جامعة شفيلد الإنجليزية. قال إنه رأى سلسلة مقالات وضعتُها حول الحضارة الدرزية… وطلب أن يعرف كيف يقتبس منها. تبيّن أنّني ذكرتُ في إحدى المقالات التي تحدثت عن أصل الدروز أنه من جميع التخمينات التي وُضعت حتى اليوم حول أصلهم، ما يبدو لي الأكثر منطقية هو المنطقة بين أوروبا وآسيا (بين بحر قزوين والبحر الأسود) التي تُدعى القوقاز”، هكذا ادّعى البروفسور ألموج في منشوره.
3 تعليلات عرضها البروفسور ألموج لتعزيز حدسه الأنثروبولوجي:
1- الديانة الدرزية والعادات التي نشأت حولها هي عبارة عن “كولاج من مصادر كالهندوسية، المسيحية، الإسلام، واليهودية. الكولاج الحضاري مؤسس على انتقائية تاريخية، شائعة بشكل أساسي بين القبائل المتنقلة. فإذا كان الدروز في العالم القديم قد جمعوا عناصر حضارية من حضارات متنوعة إلى هذا الحد، يدلّ ذلك على أنهم انتقلوا إلى مكان سكنهم الحالي (الشرق الأوسط)، ولم يولدوا فيه. كما هو معلوم، عانت منطقة القوقاز لآلاف السنين من عداوات سياسية، عسكرية، دينية، وحضارية (تقع بين روسيا، تركيا، وإيران) – ما جعل العديد من القبائل تهجر قراها وترحل إلى أماكن آمنة”.
2- مكان سكَن الدروز: قرى على قمَم الجبال. وهكذا يدّعي البروفسور ألموج: “ربط البعض الظاهرة بكونهم أقلية مضطهَدة اضطُرّت إلى حماية نفسها عبر السيطرة الطبوغرافية. هذا صحيح على الأرجح، لكن إذا تذكرنا أنّ القوقاز منطقة جبلية (تشمل إلبروز، أعلى جبل في أوروبا)، يمكن الافتراض أنّ القبائل التي اعتادت على الحياة في الجبل تنجذب بشكل واضح إلى الطبوغرافيا الجبلية”.
3- المظهر الخارجي للدروز: “يختلف كثيرون من الدروز في مظهرهم عن الهيئة العربية النموذجية (مثل العيون الفاتحة)، ما يذكّر إلى حدّ بعيد بشعوب منطقة القوقاز. حين سكنتُ في (قرية)عسفيا (شمالي إسرائيل)، اعتدتُ على ممازحة جيراني بأحاجٍ. كنتُ أريهم صورة رجل أو امرأة من القوقاز وأطلب منهم أن يخمّنوا في أية قرية درزية يعيشان. بسبب التشابه في المظهر مع أقربائهم، لم يشكّ أحد من الذين كنتُ أسألهم في أنّ الأشخاص في الصورة ليسوا دروزًا أبدًا”.
الديانة الدرزية لم تنشقّ عن الإسلام
من المتعارَف عليه أنّ المذهب الدرزي انشقّ عن الإسلام الشيعي نهاية الألفية الأولى للميلاد، وانتشر في أرجاء الشرق الأوسط متأثرًا بأديان أخرى. عاش أوائل المؤمنين الدروز في القاهرة كما يبدو، لكنّ الاضطهاد وأعمال الشغَب جعلتهم يهربون إلى بلدان مجاورة. لمَ مصر تحديدًا؟ ليست هناك إجابة واضحة، لكنّ البروفسور ألموج لديه تخمين في هذا الشأن.
“الحاكم بأمر الله هو الخليفة السادس في السلالة الفاطمية في مصر، وقد حكم بين عامَي 996 و1021. خلال سنوات حُكمه، نجح الحاكم في توسيع منطقة نفوذه واحتلال منطقة حلب – منطقة سورية يسكنها الكثير من الدروز. يُحتمَل أن يكون قد تأثر بالمعتقد الدرزي الانتقائي، فبدأ قرابة نهاية عهده يطوّر الديانة الدرزية وينشرها (الدروز هم مَن منحه لقب “الحاكم بأمر الله”). يعني ذلك أنّه يجب التمييز بين بوتقة انصهار الديانة الدرزية (لا سيّما مصر) وبين الأصل الجغرافي (القوقاز) ومجموع المعتقدات والعادات التي جمعوها خلال رحلتهم التاريخية إلى الشرق الأوسط”.
يدّعي البروفسور ألموج أيضًا أنّ “العرب المُسلمين اضطهدوا الأقلية الدرزية… يبدو أنّ هذا هو سبب كون الديانة الدرزية سرية (للحماية من الأعداء)”.
الدراسات الوراثية تُثبت أنّ الدروز ليسوا عربًا؟
شغلت مسألة الأصل التاريخي للدروز مؤرخين عديدين خلال القرون الماضية، وكذلك علماء وراثة مؤخرًا. وفيما يسود بين المؤرخين الاعتقاد أنّ أصل الدروز هو القبائل العربية التي قدمت ممّا يُعرَف اليوم بالسعودية أو إيران، اكتشف علماء الوراثة أنّ الميتوكندريون (محطة طاقة الخلية البشرية) لدى الدروز يتّسم بسمات قوقازية قوية غير شائعة في منطقتنا. “لقد وجدوا أيضًا، لدهشتهم، أنّ القرابة الجينية بين اليهود والدروز أكبر من القرابة بين هذَين الشعبَين وبين شعوب أخرى في الشرق الأوسط”، يقول البروفسور ألموج.
يمكنكم أن تقرأوا حول هذا الخبر في مقال د. الحايك وزملائه، الذي نُشر في المجلة العلمية Scientific Reports الصادرة عن مجموعة Nature.
وضع الـ GPS الوراثي الدروز بين جبال زاغروس في العراق وجبل أراراط (منطقة أرمينيا سابقًا)، فيما وُضع باقي شعوب الشرق الأوسط (من حيث بصمتهم الوراثية) إلى الجنوب من سوريا
للإجابة عن مسألة أصل الدروز، حلّل الباحثون الحمض النووي (DNA) لدى 400 درزي من إسرائيل (متطوّعين مجهولين) وأكثر من 1000 أورو-آسيوي (من شعوب مختلفة). تمّ التحليل باستخدام GPS وراثي، يعمل وفق مبدأ مشابه لـ GPS الأقمار الصناعية.
قسم الباحثون العالم إلى تسع مناطق، وأنتجوا نماذج حمض نووي تمثّل السكّان المحليين في كلّ منطقة. لاحقًا، حلّلوا سلاسل DNA لشعوب مختلفة تعيش اليوم، وحسبوا نسبة الـ DNA لكلّ شعب مقارنةً بالنماذج العالمية التسعة (مثلا: يمكن أن يكون لشعب معيّن DNA يشابه بمقدار 15% ذاك الذي للإفريقيين الجنوبيين، 30% للإفريقيين الشماليين، و55% لسكّان الشرق الأوسط). هكذا حصلوا على “البصمة” الوراثية المميزة لكلّ شعب.
“السؤال الذي طُرح في البحث الجديد هو إلى أيّ حدّ يشابه الجينوم لدى الدروز مبنى جينوم الشعوب التي يعيشون بينها اليوم (معظمهم عرب يعيشون في سوريا ولبنان)؟
يتيح الـ GPS الوراثي إيجاد المكان الذي نتج فيه DNA مجموعة إثنية معيّنة بدرجة دقة شديدة وفي مجال زمني يمتدّ نحو ألف سنة. خمّن د. الحايك وزملاؤه أنّه إذا حرص كثيرون من الدروز على الزواج داخل طائفتهم، فقد حافظوا على التوقيع الوراثي لآبائهم، ما يُتيح للـ GPS أن يحدّد في الحيّز الجغرافي من أين أتوا.
بكلمات أخرى، قارن الباحثون “البصمة” الوراثية للدروز بتلك التي لشعوب من العالم كلّه… لدهشتهم، وضع الـ GPS الوراثي الدروز بين جبال زاغروس في العراق وجبل أراراط، وهو الأعلى في المنطقة الجبلية في تركيا (منطقة أرمينيا سابقًا)، فيما وُضع باقي شعوب الشرق الأوسط (من حيث بصمتهم الوراثية) إلى الجنوب من سوريا”.
وثّق الباحثون المكتشَفات عبر DNA قديم (4000 قبل الميلاد – 1000 للميلاد) من إسرائيل، تركيا، وأرمينيا. هنا أيضًا، كان الحمض النووي الدرزي ذا شبه شديد بذاك القديم من منطقة القوقاز، فيما ظهرت قرابة شديدة لباقي شعوب الشرق الأوسط بالـ DNA القديم لهياكل عظمية من بيئتها المحلية. يعني ذلك أنّ الدروز مُهاجرون من بعيد، وليسوا محليين.
البروفسور ألموج والدكتور الحايك مقتنعان أنّ هذه المكتشفات تشهد بوضوح على أنّ أصل الدروز هو الشعوب الإيرانية التي عاشت شمال شرقي تركيا وأرمينيا، ويوضح ما اكتُشف التقارب الوراثي بينهم وبين يهود الشرق الأوسط والأشكنازيين، الذين تعود أصولهم إلى المنطقة عينها.
الاستنتاج الذي يرمي إليه البروفسور ألموج هو: “صحيح أنّ ما اكتُشف حول الجينات المختلطة للدروز (بينهم وبين عرب الشرق الأوسط) لا يدلّ على توقيت الدمج، لكنه يدلّ حتمًا على أنّ الدروز ليسوا مجموعة منعزلة ومتجانسة من ناحية وراثية، تمامًا مثل سائر المجموعات في الشرق الأوسط”.